الذي مزّق الكيانَ اليمني هو آلة التعدديّة التي حوّلوها في وعي الناس من آفة إلى مبدأ وخيار لا محيد عنه، هذه التعدديّة التي جاءت مع الوحدة هي التي أفرغتها من مضمونها وحولتها إلى حظيرة لصراع ديوك التعددية السياسية.
لو سألت أبسط إنسان عن خطة المستعمر في إضعاف الشعوب وإخضاعها لقال لك أنها استراتيجيّة "فرّق تسُد"، هذه الإستراتيجيّة ليست حصريّة على الغزاة البريطانيين أو البرتغاليين أو الفرنسيين فحسب فقد استخدمها الغزاة الهاشميّون في إضعاف وتفتيت الكيان اليمني قبل مئات السنين، ولقد كانت لعبة التعدديّة السياسية بعد العام ٩٠م فرصتهم التي يجيدونها لتمزيق وإضعاف اليمنيين من خلال النفخ على جمر الفتنة بين كبريات القوى المتشكلة في إطار التعددية السياسية، وهو ما نجني اليوم ثماره ونتاجه ونتائجه أما المقدمات فقد بدأت وتنامت وتكدست وتراكمت منذ تدشين التعددية التي صاحبت الوحدة - أي أن ما نعيشه اليوم من جوٍّ مشحون بالكراهية الفئوية والسياسية ليس إلا نتاج ثمرة تلك المقدمات من حالة التنافر والشحن والتشاحن، ولم تكن الأعوام الأخيرة إلا مرحلة انفجار ذلك الشحن وتلك التعبئات المضادّة والمتضادّة.
قبل العام ٩٠م كانت الوحدة الوطنية أكثر رسوخاً وبما لا يقاس من اليوم وحتى أيام التشطير كان الشعب في الشمال والجنوب أكثر عناقاً وتلاحماً روحيّاً وقوميّاً من اليوم. بل حتى القيادت على رأس نظامي صنعاء وعدن لم يكن بينهم من التوجس والمخاوف ما كان بينهم بعدها، ولأسباب تعددية أيضاً ذلك ان الوحدة التي يسمونها اندماجية لم تدمج قوة القيادتين في كيان وطني واحد فالقوم اليوم حين يعلنون فشل الوحدة الإندماجي ة إنما يفترون عليها لأنها لم تكن اندماجية ولا هم يدمجون.
كل من له قليل إدراك بشئون الإجتماع السياسي يعرف أو يفترض أنه يعرف أن مسمى الوطن - أيّ وطن - هو مجموع عنصرَي ( الأرض+الإنسان )، والحقيقة أن خنجر التعدديّة الذي فرضه "شقاة السياسة" في بلادنا قد مزّق العنصر الأول من الوطن وهو ( الإنسان ) وكانت هذه هي المرحلة الأولى من التعدديّة - مرحلة تعدد الإنسان = المجتمع - الشعب، واليوم وبعد أحداث ٢٠١١م تم استكمال المرحلة الثانية بتعدد العنصر الثاني وهو ( الأرض ) تحت مسمى الفيدرالية والأقاليم ! وقد تم استدعاء جوقات من جميع الأطراف والأطياف شملت إعلاميّين وسياسيّين ومتثقفين ونشطاء وأساتذة جامعات من رواد الوعي القروي يدقون الطبول وينفخون المباخر والمزامير ويرقصون ويهزون الأوساط والأطراف حول هذا السقوط الجديد الذي يسمونه الفيدراليّة.
إذن لقد تم تدشين المرحلة الثانية من تقسيم ومحاصصة الأرض على أساس تضاريسي ومناطقي جهوي كما تم من قبل تمزيق الإنسان على أساس طائفي وشللي سياسي وبما يعكس ويخدم أهداف فلول ومخاليع العقود السابقة.
في المستشفيات التي يكون هدف مالكيها الربح المادي من خلال ابتزاز ذوي المرضى يأخذك أفراد عصابة يفترض انهم الأطباء إلى غرفة الجراحة ويشرعون في فتح الجراحة ويبلغونك في الأثناء ان تكاليف العملية ستكون بالملايين وحين تخبرهم أنك لا تملك المبلغ يقولون لك إرهن السيارة التي اوصلت المصاب.. هكذا يبتزك عصابات الطبّ الحديث إما موت حبيبك أو بيع منزله او سيارته !
وهكذا تم ابتزاز اليمنيين وإصابتهم في مقتل في فتنة ٢٠١١م لإدخالهم إلى حجرة جراحة موفينبيك وفيه تم ابتزازهم ليبصموا على كل الإملاءات وليتها أنجتهم. وهكذا مع كل تزامن لأي عملية تغيير من هذا النوع للخارطة الوطنية نجد أن القائمين عليها من الخارج وعمالهم في الداخل لا يستطيعون طرحها في حالة طبيعية يكون الشعب فيها خارج غرفة الجراحة ليكون أمامه خيارٌ غيرها للسلامة ليرفضها، وإنما يعملون على تأجيج الفتن والصراع حتى يجد الشعب نفسه ممدداً في حجرة الجراحة في محنة مصيرية يتعلق فيها بأي قشّة يلوحون له من خلالها بأمل الخروج من وضعه السريري بين الحياة والموت، وهذا بالفعل ما تم في مخرجات الحوار من طمس لكثير من ملامح الهوية الوطنية ونسف لكثير من الثوابت والمرجعيات التي أرستها ثورة سبتمبر والدساتير المتعاقبة عليها.
غنيٌّ عن التذكير أنّ فكرة الفيدرالية هي من بنات افكار زيد علي الوزير رائد الليبرالية الزيدية الإماميّة المقيم في اوروبا منذ هروبه من استحقاقات المواطنة المتساوية في ظل النظام الجمهوري. وذلك في كُتيّبهِ الصادر مطلع التسعينات "نحو وحدةٍ يمنيّةٍ لا مركزيّة"، وابن الوزير إذ قدم اطروحته يومها فقد كان كل طموحه أن يحظى الهاشميّون بكانتون في طرف البلاد يقوم لهم عليه إقليمٌ إداري يستعيد فيه الهاشميون شيئاً من ذاتهم السلالية في شكل وحدة إدارية يمارسون فيها نشاطهم السلالي بانعزاليّة نسبيّة بعيداً عن طائلة الرقابة "المركزية" لنظام اليمنيّين الجمهوري.
أسمع هذه الأيام وأقرأ ثرثرات جَمّة عن الجمهورية والإتحادية ولهؤلاء أقول : أن الفيدرالية ليست في أدبيّات ولا أهداف ولا مبادئ الثورة والجمهورية ولقد رحل آخر ثائر سبتمبري وأكتوبري ولقوا ربهم جميعاً قبل أن يفكر ايٌّ منهم بالفيدرالية أو تخطر له على بال فلماذا نكذب عليهم ونبدل نهجهم بتلافيق حتى هي مسروقة ! وممن ؟ من أعداء الثورة والجمهورية.
نعم.. لم ترد الفيدرالية للجمهورية في سنة ولا في كتاب وإنما انطلقت نظرياً على قلم ولسان أحد اكبر عقول الكهنوت السُلالي في التاريخ المعاصر زيد علي الوزير، ووصلت عمليّاً لإقرارها مع وصول طلائع الزحف الكهنوتي لميليشيات الإمامة على صنعاء ومدن اليمن الجمهوري.
فمن أراد أن ينفصل بمحافظته أو قريته أو حارته ويعلنها دولة مستقلة ذات سيادة ووجد في نفسه الرغبة والقدرة لذلك فليفعل ولكن من دون إلصاق ذلك الإفك والغدر والسقوط بالجمهورية ونسبته إليه.