اليمن وثقافتها الجمهورية
الجمعة 3 يوليو 2020 الساعة 17:18
ميدل إيست اونلاين

يواجه الباحث اليمني د.علي محمد زيد في كتابه "الثقافة الجمهورية في اليمن" تساؤلات الكثير من الشباب اليمنيين الذين يرون أن اليمن لم تشهد تغييرا نوعيا في حياة اليمنيين بعد قيام الجمهورية. حيث يتساءلون: ماذا فعلت الجمهورية لليمن إذا كان الفقر لا يزال يسحق غالبية اليمنيين، والأمية حاضرة وتوشك أن تكون مستديمة، وعشرات الآلاف من المواطنين اليمنيين يسافرون إلى الخارج للبحث عن رعاية صحية لا يجدونها في بلادهم، ولا تزال اليمن تعيش على هامش عصرها، ولا يزال الوعي العام متدنيا وفي بعض الحالات ينحدر إلى الحضيض، ولا تزال نوعية التعليم متدنية، ولا يزال المسرح والسينما مطرودين من الثقافة في اليمن، ولا تزال الغلبة بالسلاح وسيلة لحكم الغالبية الشعبية، ولا تزال الديمقراطية وحقوق الإنسان غائبة من حياتنا، ولا يزال اليمني يعتمد على غيره في إنتاج كل شيء تقريبا، ولا يزال الابتكار والاختراع غائبين من حياتنا والبحث العلمي والتكنولوجي مستبعدا حتى من خيالنا.. إلخ؟
يقول زيد في كتابه الصادر عن مؤسسة أروقة للنشر والترجمة والدراسات والذي يتناول ما قدمه نخبة اليمنيين من المفكرين والمثقفين والأدباء والشعراء منذ انطلاق الجمهورية حتى منتصف السبعينيات "حين يصل التيه إلى حد التساؤل والتشكيك في عقولنا وفي أحاسيسنا وتجاربنا التي عشناها، وتذوَّقنا حلاوتها أو تجرَّعنا مراراتها، يصبح الأمر خطيرا ويستدعي أن نتوقف ونتأمل محطات حياتنا لنوطد اليقين الذي امتلكناه ونقلل من لحظات الشك والحيرة التي تصيبنا بالإحباط واليأس. هذا ما أحسست به وأنا أخوض في نقاش مع مجموعة من شباب لم يخوضوا بعد تجارب الحياة كما ينبغي ولا يتعاملون مع عقولهم تعاملا مسئولا مع أنهم يستطيعون إذا امتلكوا الإرادة والتصميم بلوغ حد كبير من المعرفة اليقينية، لأنهم يمتلكون من وسائل الوصول إليها أضعاف ما أتيح لنا في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات. ولا تنقصهم التحديات التي ينبغي أن يواجهوها وأن يتفاعلوا معها ويستجيبوا لها بعقل منفتح وبطموح كبير نحو تجاوز لحظات الخواء وتجنب إغراء الاستسلام للفراغ.
ويضيف "جعلني أحدهم في مواجهة نفسي حين سألني ببساطة: ما هي الثقافة الجمهورية التي تتحدث عنها؟ وأحسست بشيء من الصدمة، وخشيت أنني لا أمتلك الإجابة عن سؤال كان ينبغي أن أسأله لنفسي قبل أن أواجهَ هذا السؤال البسيط المحرج. فهل امتلك إجابة شافية؟ ماذا يمكن أن تكون الثقافة الجمهورية في اليمن؟ إن لم تكن:

- تحوُّل أحلام المستنيرين الرواد، من تُهمٍ تقود في أحسن الأحوال إلى السجون وفي أسوئها إلى المشانق، إلى جمهورية تحطم قيود العزلة والانغلاق وتفتح الأبواب والنوافذ لرياح الحرية كي تهب وتقي شعب اليمن مخاطر الاحتضار والانقراض؟
- تجديد محمد محمود الزبيري للشعر العمودي بتحويله من مدح وهجاء ورثاء ونفاق ومجاملات ونَظمٍ سطحي مفتعل إلى كتابة بالأعصاب والمشاعر وبدم القلب، وبلغة لا أصدق منها، مكرَّسة للدعوة لتحرير الشعب من الظلم والاضطهاد والاستبداد والحرمان من كل ما يساعد الإنسان اليمني في تحمل أعباء الوجود على هذه الأرض، والاندماج الحميم الصادق بين الشاعر الإنسان وإبداعه الشعري وقضية شعبه؟
- تحوُّل دعوة حركة الأحرار، بقيادة الرائدين العظيمين محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان، لنشر "العلوم النافعة"، وبخاصة دعوة أحمد نعمان إلى إعطاء الأولوية للتعليم وتأسيس كلية بلقيس لاستيعاب أبناء الهاربين من الظلم والفقر نحو مستعمرة عدن، إلى نظام تعليمي جمهوري حديث ينقل اليمن من الحرمان من حق التعليم، ومن شيوع الأمية، إلى تعميم التعليم ليكون حقا لكل طفل في اليمن؟
- تجديد عبدالله البردوني للشعر التقليدي بابتكار صور شعرية جديدة مدهشة وإدخال تقنية الحوار وتعدد الأصوات في القصيدة؟
- اختيار عبدالعزيز المقالح الانتقال من تجديد الشعر التقليدي إلى تجاوزه للالتحاق بدعوة الرواد اليمنيين الأُوَل الذين حاولوا مبكِّرا المشاركة في تيار الشعر العربي الجديد في حركة الثقافة العربية لكي تنتقل حركة الثقافة في اليمن إلى مستوى يجاري أبدع ما تنتجه الثقافة العربية، وأن تتوقف الثقافة في اليمن عن البقاء على هامش الثقافة المعاصرة؟
- اختيار محمد الشرفي لقضية إنصاف المرأة وتأسيس المسرح وكتابة النصوص المسرحية الشعرية والنثرية بحيث تصبح الدعوة إلى تحرير المرأة من كل وسائل التمييز والاستبعاد والإقصاء ونهضة المسرح في اليمن رسالة حياته؟
- تأثير مستعمرة عدن التي كانت نافذة على الليبرالية الغربية وعلى الحضارة الحديثة؟
- القيم الجديدة الداعية للحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان ولتوفير أوسع فرص الحياة الكريمة والتنمية ومكافحة الفقر؟
- تأسيس عبدالله عبدالوهاب نعمان وأيوب طارش لثنائي أبدع أعذب الألحان الجديدة، وتجديد مطهر الإرياني وعلي صبرة وأحمد الجابري ولطفي جعفر أمان وحسين أبوبكر المحضار للغة الأغنية اليمنية، وتحديث أبو بكر سالم بالفقيه ومحمد مرشد ناجي وأحمد بن أحمد قاسم ومحمد سعد عبدالله وغيرهم للأغنية اليمنية وللغناء اليمني؟
- تأسيس هاشم علي وعبدالجبار نعمان للفن التشكيلي في اليمن؟
ويرى زيد أن كتابه يحاول بالتحديد تلمَّس ذلك وعرضه للقراء رصدا وتحليلا. ويؤكد أنه من حق الجمهورية علينا، نحن "جيل الجمهورية"، أي الجيل الذي فتحت له باب الأمل والنجاة من الغرق في غياهب العزلة والانغلاق وأخرجته من ظلام القرون الغابرة ليتمسك ببصيص من نور القرن العشرين، أن ندافع عنها وأن نستعرض الأحوال التي جعلت منها عملية قيصرية ضرورية لإنقاذ شعب اليمن من الاضطهاد والانقراض. 
أنا لا أطلب من الأجيال الجديدة أن تتخلى عن أحلامها بصنع مستقبل أفضل لها ولشعبها، يخرجها من حالة الضياع والعجز والتخلف الشامل إلى حياة القرن الواحد والعشرين وقفزاته المعرفية واكتشافاته العظيمة وأحلامه وطموحاته. فكل ما أطلب هو إدراك ما أحدثته الجمهورية من فتح الأبواب للانتقال من القرون الغابرة إلى العصر الحديث، وإنصاف الرواد المخلصين الذين بذلوا ما يستطيعون من جهد ومن عَرَقٍ ودماء من أجل تحقيق ما سمح لهم الزمن الصعب بتحقيقه في وجه مقاومة عاتية من قوى الظلام والجهل وأعداء الحرية والتقدم.
يورد زيد شهاداتٍ حيةً على حال الموت السريري الذي كان الشعب اليمني يعيشه قبل التغيير الجمهوري، وغيابه وهامشيته في عالمه، وغربته عن العصر الذي يعيش فيه، ورصد تفصيل مقدمات ذلك التغيير الثقافي في الداخل والخارج، والصعوبات الجمة التي تجشَّمَها الرواد الأُوَل كي يفتحوا أبواب التملمُل والحركة واستنشاق بعض نسائم الحياة الجديدة، حيث حفروا بأظافرهم العارية وبعذاباتهم ومعاناتهم منافذَ لتسرُّب أفكار التنوير والتفاعل الثقافي. كما رصد جهود المثقف اليمني المستنير في العمل الصابر المثابر لكي تصل هذه الأفكار وهذه المؤثرات الثقافية إلى حد التجسيد في حركة ثقافية واسعة. 

ويشير "كان الشعر، بحكم رقة إحساس الشعراء وبحكم الثقافة الشعرية التي كانت سائدة، أول المبادرين إلى البدء بالحركة، فقدم روادا بذلوا ما استطاعوا من جهود ليدلُّوا الشعب على طريق التحرر من الاستبداد والتخلف. وما لبثت القصة القصيرة أن تجاوبت ودخلت الميدان باعتبارها بطبيعتها نبتة حديثة لا يمكن أن تولد وتنمو وتترعرع إلا في أجواء التفتح والتفاعل مع التحديث، وهكذا ساهمت في رسم علامات السير على طريق الحرية. ولبَّى المسرح النداء إلى التجديد والانبعاث الحضاري وإن كانت المعوقات لا تزال أكبر من أشواقه وأحلامه. وكان تجدد النثر الصحفي والأدبي شاملا وعاما. وإذا كان التعليم هو الميدان الأبرز للتغيير الجمهوري، بالقياس إلى غيابه وشدة تخلفه قبل ذلك، فإنه لا يزال يطرح التحدي تلو التحدي ويشير إلى الحلبة التي بدونها لا أمل في حدوث أي تغيير ثقافي أو تجديد أو تحديث أو انبعاث حضاري. كانت المطالبة فيما مضى قد ركزت على الحصول على الحق في التعليم، وأصبحت المطالبة الضرورية فيما بعد تلح على تحسين نوعية التعليم وتضع ذلك في مقدمة جميع المطالب، لأن التعليم الذي يواكب أحدث أنظمة التعليم في عالم اليوم ويستجيب لحاجات التنمية والبناء والإبداع والابتكار هو المدخل إلى كل تغيير حقيقي".
ويوضح زيد "مع أن القيم الثقافية والأخلاقية قد تغيرت نسبيا وتحركت إلى الأمام خلال الفترة موضوع التناول، فإن الصراع بين القيم القديمة والجديدة قد كشف إلى حد كبير عمق جذور التخلف والتحجر في الواقع الذي جاءت الجمهورية لتخرجه من سباته المستديم، وتُوقِف عجلة التدهور نحو قاع العزلة والانغلاق والتقوقع، ورفض البقاء في ذيل قائمة الدول الأفقر والأكثر تخلفا في العالم. وتنبغي الإشارة إلى أن اليمن كوحدة جغرافية تاريخية قد تُوقِع في العزلة وراء أسوار البحر والصحراء، أو قد تؤدي إليها، ما لم تتدخل إرادة الإنسان الواعية للتغلب على المعوقات الجغرافية والتاريخية والسياسية. ولكي تتحرك اليمن لمعانقة العالم من حولها تحتاج إلى مد الجسور نحو المراكز الثقافية الحضارية خارج حدودها. وقد فعلت ذلك في الماضي، مثلا، مع اسطنبول، ومع القاهرة ومع الليبرالية الغربية والتحديث عبر مستعمرة عدن. وهي في حاجة دائما إلى مد الجسور الثقافية والحضارية والعلمية، ناهيك عن التبادل الاقتصادي والتجاري، مع العالم الخارجي لكي تبقى قادرة على تلبية حاجاتها الضرورية والتفاعل والمشاركة والإبداع، وبناء عوامل التفتح والازدهار، وإلا فإن محذور الانطواء على الذات والعودة إلى العزلة والانغلاق والارتكاس إلى الدعوات الأولية البدائية يبقى احتمالا قائما.
تنتهي الفترة التي حاول زيد تتبع ملامح التغيير الثقافي خلالها في منتصف سبعينيات القرن العشرين بعد أن حدثت تطورات كبيرة واعدة على مستوى اليمن، وتحقق شيء من الاستقرار الأمني والسياسي، وبدأ التوقف النسبي للقتال في الشمال وطموحات الجبهة القومية في الجنوب للمصالحة مع خصومها السياسيين اليساريين والقوميين. وزادت عائدات المغتربين وخلقت بعض التحسن في مستويات المعيشة وبخاصة في الريف، وبدأت المدن تنمو وتوجِد تطورا محدودا في مجال الاستثمار والتنمية. وبدأ التعليم العام ينتشر بشكل أفضل من أي وقت مضى، وساهم الأهالي في الريف في هذا التوسع للتعليم، وبدأت جامعتا صنعاء وعدن في توطيد مركزيهما الأكاديميين وتأسيس مسيرة التعليم العالي في اليمن وإن بنوعِيَّةٍ لا تواكب ما يشهد التعليم العالي في عالم اليوم من قفزات معرفية وابتكارات تكنولوجية. وبدأ خلق المؤسسات الحديثة مثل مؤسسات الصحافة والأنباء، والتحَقَ التلفزيون في صنعاء بتلفزيون عدن الذي كان قد وُجِد في ظل الاحتلال البريطاني سنة 1964. وتأسست الفرق الوطنية للمسرح والرقص الشعبي والموسيقى، وبدأت الصحف القائمة تفسح مجالا للملاحق الثقافية، وتأسست مجلتان ثقافيتان رسميتان هما "اليمن الجديد" في صنعاء و"الثقافة الجديدة" في عدن. وبدأ الشعر الجديد يوطد مسيرته وأقبل عليه الكثير من الشباب، منهم من نجحت محاولته ومنهم من أخفق. واقتحم بعض الشباب كذلك مجال كتابة القصة القصيرة، وأطلَّ المسرح برأسه على المجال الثقافي فبدأت فرق المسرح تعرض مسرحيات بعضها لمؤلفين محليين، وبعضها مقتبس من الأدب العربي ومن الأدب العالمي.
ويخلص زيد "بدأ الوعي الديمقراطي ينتشر، وزاد المؤمنون بحق المواطن اليمني في الحياة والنشاط الحر والإبداع والمشاركة في بناء الحياة الجديدة. وأصبحت أفكار المساواة والتسامح وحقوق الإنسان أمرا متداولا في الأوساط الثقافية، وتراجعت الأفكار الأولية التي تفرِّق بين الناس بحسب مناطقهم وقبائلهم ومذاهبهم، والتقى الناس في الدراسة والعمل من مناطق يمنية مختلفة. وهكذا بدأت القيم الحضارية الجديدة تتواجد ولكن في صراع مع القيم القديمة المتخلفة. فهل تواصل هذا الاتجاه نحو النهضة الحضارية وتبنِّي القيم الإنسانية النبيلة.. أم أن اليمن قد ارتكست وعادت دورة كاملة إلى الخلف؟ هذا هو السؤال الذي ستتضح إجابته بالتفصيل في دراسة تتناول الجمهوريتين الثالثة والرابعة، وهو أمر خارج إطار هذه السطور التي وضعت لنفسها إطارا زمنيا محددا لا تريد تجاوزه في هذا المقام.

متعلقات