منذ قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وحتى انتخاب علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية في 17 يوليو/ تموز 1987م، في شمال اليمن "آنذاك"، كانت البلاد أشبه ببركة من الدم، وأمَّا كرسي الرئاسة فهو "كرسي الموت" لكل من يتربعه -حد وصف الضباط والمشايخ في حينه- لدرجة أحجم الكثيرون بمن فيهم "صالح" نفسه، عن اعتلائه أو الرغبة فيه، لما يعانيه من تصفيات واحتقان وصراعات مسلحة، في شمال اليمن ومناطقه الوسطى.
تقول المصادر الوثائقية والتاريخية، إن الضباط والمشايخ القبليين في شمال اليمن، بعد أن تولى الحكم البلاد في أقل من عقدين وتحديداً من فجر ثورة 26 سبتمبر 1962م وحتى 24 يونيو 1978م، أربع شخصيات، أزيحت جميعها من الحكم عبر فوهات "البنادق" سواءً بالتصفية أو الانقلابات، تزامن معها اضطراب أمني وصراعات مسلحة دامية، وصلت إلى حد انفجار حرب عسكرية بين حكومتي شمالي البلاد وجنوبها في أكتوبر من العام 1972م، وما إن توقفها الوساطات الدولية العربية في عام ما، إلا سرعان ما تعاود في العام الذي يليه، ومع هذه التشعبات المعقَّدة في إدارة شؤون حكم البلاد أحجم الكثيرون واعتذروا عن تولي منصب رئاسة البلاد.
ومع كثر التعقيدات، واستمرار فلول الإمامة بعمليات اختراق النظام الجمهوري والكيان المجتمعي والقبلي بشكل عام، أدرك الضباط اليمنيون والمشايخ القبليون أن الجمهورية وإرساء الأمن والاستقرار لتسهيل بناء دولة الجمهورية وهي الأهم من أي شطحات قد تكون سبباً باستعادة الأئمة للنظام وعودتها من جديد أو حتى الدخول إليه من نافذة أخرى، فأشارت أصابع الجميع نحو الضابط الشاب المقدم علي عبدالله صالح، الذي عُرف بين زملائه ومرؤسيه بالشجاعة والذكاء والحنكة وتميزه بالكثير من الصفات العسكرية والقيادية التي اكتسبها في الميدان العسكري منذ أن كان جندياً وحتى توليه قيادة لواء محافظة تعز.
وفي 17 يوليو/ تموز 1978م، تولى علي عبدالله صالح مقاليد الحكم في اليمن، حيث جرى انتخابه لأول مرة رئيساً للبلاد من قبل 75 بالمئة من أعضاء مجلس الشعب التأسيسي الذي كان قائماً حينها، وذلك بعد أن رأى مجلس الشعب التأسيسي أن اليمن بحاجة إلى شخص قوي لديه القدرة والكفاءة على خوض غمار التحدي ومواجهة الأخطار المحدقة بالوطن وأبنائه ليستقر بهم الرأي على علي عبدالله صالح.
صالح وكفنه
ويعتبر صالح أول رئيس سعت إليه السلطة دون أن يسعى إليها، وأول رئيس أيضا تم اختياره عبر انتخابات، فقد كان رافضا لها كغيره لولا أن الاختيار وقع عليه وهو بالنسبة له تكليف يجب القبول به لخدمة بلده وشعبه في مثل هكذا ظروف، حيث قال في ذلك وفقا لمصادر وثائقية، "كنت أشعر بصعوبة المهمة وأعرف أن فقداني لحياتي سيكون في اية لحظة، لكن التضحية في سبيل الوطن واجبة وسهلة". د وأضاف "المقدم صالح"، حينها، "لقد اخترت كفني ولم اخش شيئاً عندما طلب مني تحمل المسؤولية.. وما كنت اخشاه هو أن ينتكس الوطن."
الميثاق الوطني
ومنذ اليوم الأول لتولي "صالح" الحكم بدأ يعمل على تهدئة الأوضاع في البلاد وإعادة مناخات الأمن والاستقرار من خلال جملة من الخطوات والتدابير التي حرص على اتخاذها على منهجية الحوار، والتسامح، ومد يده بيضاء للجميع من مختلف القوى والأطراف السياسية، مركزاً على أسلوب الحوار، منذ البداية، أساسا للتعامل مع الآخرين وفي معالجة مختلف القضايا الوطنية التي كان في مقدمتها تلك الأوضاع التي تمثلت بأعمال العنف والفوضى والصراعات السياسية وحالة عدم الاستقرار التي كانت سائدة في اليمن خلال الفترة التي أعقبت قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م وحتى عام 1978م.
كما عمل على تشكيل لجنة حوار وطني ضمت ممثلين عن مختلف القوى والتيارات والفعاليات والسياسية والاجتماعية في الساحة اليمنية، كما توصلت لجنة الحوار الوطني التي شكلها "صالح" إلى صياغة وثيقة وطنية وافق عليها جميع الأطراف، وسميت "الميثاق الوطني".
وجسد صالح نظريته بالشراكة في الحكم مع جميع القوى دون استثناء وبما يصب في مصلحة الوطن بفاعلية ومصداقية فهو يعلم أن الفشل والعصف الذي يسود البلاد هو بسبب الالتواءات أيا كانت، ولذلك نجح في عقد مؤتمر عام تم انتخاب اعضائه من قبل المواطنين، على مستوى المناطق اليمنية، شاركوا في استفتاء على مشروع الميثاق الوطني واقرار المنتخبين على وثيقته "الميثاق الوطني".
واستمر هذا التنظيم الذي اطلق عليه المؤتمر الشعبي العام وكان أعضاؤه المنتخبون عبر الشعب ينتمون إلى مختلف التيارات الحزبية والأطراف الحزبية التي أقرت وثيقة "الميثاق الوطني"، حتى إعلان الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م، وهو الإنجاز الأكبر خلال عقود مراحل حكم "صالح"، ليس محليا فحسب، بل على مستوى المنطقة العربية، ولعل ذلك الإنجاز هو ما أزعج الكثيرين من أصحاب المشاريع الصغيرة من الطامعين في اليمن، وبدأوا يعملون ضد اليمن الواحد.
وعلى نفس منهجية الحوار التي نهجها في شمال البلاد، وضع حداً للتوترات التي كانت قائمة بين الشطرين وصراعات المنطقة الوسطى من خلال الحوار السلمي وسلسلة من اللقاءات التي كانت تتم بين المسؤولين في الشطرين قبل الوصول إلى تحقيق الوحدة.
صالح والقبيلة
كانت علاقة صالح مفتوحة مع كل الجهات، فهي لم تكن محصورة على الجانب العسكري الذي ينحدر منه، وهو ما خلق توازنا كبيرا في آلية نظام حكمه، فعلى الصعيد القبلي الذي تقوم عليه غالبية البنية الاجتماعية في البلاد، كانت تربطه علاقة قوية بالقبائل ويحرص كثيرا بالمحافظة على الأعراف والتقاليد الإيجابية القبلية، فكانت واحدة من عناصر القوة التي امتلكها، حيث يعتبر رمزا قويا للقبائل اليمنية. فهو رجل قبلي ينحدر من بين واحدة من أكبر القبائل اليمنية وهي قبيلة "حاشد" واكتسب جميع عناصر القوة والشجاعة والشهامة القبلية.
وحرص على ممارسة جميع الطقوس الإيجابية للقبيلة في عادات الأعراس والعزاء والأعياد، وحضر العديد من المناسبات، ولذلك استطاع صالح أن يحظى بمكانة متميزة بين القبائل اليمنية من قبل صعوده إلى الحكم وأن يرتبط بعلاقات قوية بها.
غزو أمريكي محتمل
أجمع المحللون والخبراء السياسيون على أن الرجل اثبت دهاءه وحنكته وحكمته ليبقى ما يزيد عن ثلاثة عقود متربعا عرش الحكم دون منافس، وبالرغم من تعدد إنجازاته إلا ان الوحدة اليمنية كانت أبرزها والمنجز الأعظم في تاريخ اليمن، تبعها فتحه الآفاق للتعددية السياسية والحزبية وتأسيس عشرات الأحزاب منها اليمنية وأخرى قطرية، بالإضافة إلى انتخابات تشريعية للبرلمان اليمني خلال الدورتين 1993 و1997م، لحقهما انتخابات رئاسية كانت الأولى في تاريخ اليمن الحديث التي شارك بها كل يمني ويمنية بلغ الثامنة عشرة من عمره، تجددت في العام 2006م.
وعلى الصعيد الخارجي وبعد أن كانت سمعة اليمن السياسية والدبلوماسية لا تكاد تذكر باستثناء وجود صوري للبلد على الخارطة، برزت مهارات صالح الخارجية وعمل على تفعيل العلاقات الدولية والإقليمية من خلال سياسة خارجية نشطة من خلال الدفع بتواجد إقليمي ودولي أكبر لليمن، واستطاع أن يقود البلاد إلى علاقات قوية ومميزة مع دول المنطقة في مقدمتها الخليجية، وترسيم الحدود مع الأشقاء في السعودية وعمان واريتريا، وبهذا يكون اوجد الامن والاستقرار للبلاد وللشعب. فضلا عن تجنيب البلاد غزوا امريكيا كان محتملا بعد ضرب المدمرة كول، بل إنه استطاع أن ينجح ببناء علاقة بين بلده وواشنطن بعد أن أصبح اليمن حليفا للمجتمع الدولي في الحرب ضد الإرهاب.
يجمع المحللون السياسيون والمراقبون على أن الشهيد الرئيس علي عبدالله صالح -رحمه الله- منذ أن تولى الرئاسة وحتى فترة تنحيه عنها، انتهاءً بدعوته إلى انتفاضة شعبية ضد مليشيا الكهنوت الإمامية في 2 يسمبر 2017م التي استشهد أثناء قيادته إياها، شكَّل علامة فارقة في تاريخ اليمن المعاصر، وشخصية قيادية استثنائية لن تتكرر على أقل تقدير خلال العقود القليلة القادمة، خط تاريخه بانجازاته.