جماعة الإخوان المسلمين وهي تبحث اليوم عن موطئ قدم لها على الأرض اليمنية بعد أن كانت تطمح إلى حكم البلد كاملا، إنّما تجني نتائج حساباتها الخاطئة وسياساتها المتسرّعة وتلهّفها على الوصول إلى السلطة من أقرب السبل. فالثورة الشعبية التي تفجّرت مطلع العشرية الحالية وحاولت الجماعة ركوب موجتها كما فعلت في أقطار عربية أخرى، أفلتت من يدها وتحوّلت إلى غنيمة بيد الحوثيين، والشرعية التي اخترقها الإخوان وحاولوا استخدامها غطاء لمشروعهم بلغت مرحلة متقدّمة من الإنهاك وقلّ حضورها وتأثيرها في مسار الأحداث على الأرض.
يقف قادة الفرع اليمني لجماعة الإخوان المسلمين، قُبيل انقضاء العقد الأوّل على تفجّر الاحتجاجات الشعبية في فبراير 2011 بوجه نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، على الحصيلة السلبية التي تأتت لتنظيمهم وعلى المصير المؤلم الذي آل إليه اليمن ككلّ، نتيجة لحساباتهم الخاطئة واستعجالهم الانقضاض على السلطة، باستخدام تكتيك جربوه آنذاك في أقطار عربية أخرى، ويتمثّل في ركوب موجة الاحتجاجات وحرفها عن وجهتها الأصلية كحركة تلقائية للمطالبة بالتغيير والإصلاح، وذلك على أساس أنّ الإخوان هم الأكثر تنظيما وتماسكا واستعدادا للقبض على زمام الحكم.
لكن الوضع في اليمن كان مختلفا، فجاءت الأحداث حبلى بمفاجآت غير سارّة للإخوان، ومليئة بالمنعطفات الحادّة التي أخذت مشروعهم بعيدا عن هدفه الأصلي الذي ظلّ يتقلّص ويتراجع عن حلم الاستيلاء على السلطة، وصولا إلى القتال لتأمين موطئ قدم في بعض المناطق غير المتّصلة جغرافيًّا.
أخطأ إخوان اليمن أولا تقدير قوّتهم ومدى متانة سندهم الجماهيري وتحديدا القَبلي، وتماسُك ظهيرهم العسكري، وأهملوا وجود منافس شرس وقوي يشاركهم اللعب على الميدان الديني، ويفوقهم تنظيما وقدرة على التعبئة والتحشيد بالعزف على الوتر المذهبي، ويتمثّل في جماعة أنصارالله الحوثية المستندة أيضا إلى دعم قوي من قبل إيران التي لم تبخل عليهم بالاستشارة السياسية والعسكرية، بالإضافة إلى دعمهم بالمال والسلاح.
وجرّت هزيمة الإخوان سياسيا وعسكريا أمام جماعة أنصارالله نتائج خطرة على اليمن وأهله لا تزال تبعاتها تتفاعل إلى اليوم بوقوع أجزاء واسعة من البلاد، على رأسها العاصمة صنعاء والمناطق المطلّة على البحر الأحمر، تحت سيطرة الحوثيين؛ بل إنّ التبعات شملت المنطقة ككل بأن أصبح لإيران موطئ قدم بجنوب الجزيرة العربية تتّخذ منه منصّة لمناوشة السعودية ولتهديد الممرات البحرية ذات الأهمية الإستراتيجية لحركة الملاحة الدولية وفي مقدّمتها مضيق باب المندب بجنوب غرب اليمن.
فبعد تنازل علي عبدالله صالح عن السلطة سنة بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضدّه اختار إخوان اليمن، ممثلين بحزب الإصلاح الفرع المحلّي للتنظيم الدولي، التمادي في لعبة اختراق السلطة من الداخل والتغلغل التدريجي داخل مؤسساتها بما في ذلك المؤسسة العسكرية بالاعتماد على نفوذ الجنرال محسن صالح الأحمر أملا في توجيه مسار الأحداث لمصلحتهم.
لكن منافسيهم الحوثيين كانوا أكثر منهم شراسة في “الهجوم” بلا هوادة على الرئيس الجديد آنذاك عبدربّه منصور هادي ومنعه من التوازن بتفجير الأزمات المتتالية في وجهه وصولا إلى انتزاع السلطة من يده.
ولم تخل مواجهة أنصارالله ضدّ الإخوان في اليمن من جانب عسكري ميداني، فقد مرّ الحوثيون إلى السيطرة على صنعاء بعد تكبيدهم قوات حزب الإصلاح سلسلة من الهزائم. وفي سنة 2014 كان القيادي البارز في حزب الإصلاح الإخواني محسن صالح الأحمر يشغل منصب نائب قائد أعلى للقوات المسلحة اليمنية التي انقسمت عمليا وانحاز قسم منها إلى علي عبدالله صالح، وانحاز قسم ثان إلى محسن الأحمر وهو القسم الذي خاض الحرب في محافظة عمران شمالي صنعاء صيف العام نفسه بقيادة العميد حميد القشيبي وكان لمقتله وهزيمة اللواء 310 مدرّع أسوأ الأثر حيث فتح الباب عمليا أمام الحوثيين لغزو العاصمة والتمدد نحو وسط البلاد وغربها وجنوبها. وخلاصة كل ذلك أن حزب الإصلاح خاض الحرب في عمران لحسابه الخاص لكن تداعيات الهزيمة وآثارها طالت اليمن كلّه.
ومنذ ذلك الحين ظلّ الإخوان يجرّون الهزائم على اليمن كلّما خاضوا موقعة ضدّ الحوثيين، حتى أنّهم تسببوا قبل أشهر في سقوط محافظة الجوف بيد أنصارالله الذين بدأوا يوجهون آلتهم الحربية صوب محافظة مأرب التي تعتبر أهم معقل للإخوان وموطن تمركز القسم الأكبر من قوّاتهم العسكرية.
متاهة من الصراعات
بين تلك الأحداث وما آلت إليه الأمور اليوم في اليمن من صراعات وانقسامات جانبية تتفاعل على هامش الصراع الأصلي ضدّ الحوثيين، سلسلة طويلة من الأحداث والمنعطفات الحادّة التي يربط بينها خيط ناظم يتمثّل في مواصلة إخوان اليمن اللعب لحسابهم الخاص ولمصلحة مشروعهم العابر للحدود، مع الالتزام بالتكتيك ذاته المتمثّل في الاختباء تحت جبّة السلطة ومحاولة استغلال مكانتها السياسية وعلاقاتها الإقليمية ومقدّراتها المالية والعسكرية لمواجهة خصومهم وانتزاع ما يمكن انتزاعه من مكتسبات وتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهداف ظلت تتقلّص منذ سنة 2011 وصولا إلى اليوم حيث تيقّن هؤلاء من استحالة حكم اليمن موحّدا ويئسوا من انتزاع المناطق الواقعة بأيدي الحوثيين، فوجّهوا جهودهم نحو مناطق أخرى مستعادة من الحوثيين أو لم يدخلها هؤلاء أصلا ليصطدموا هناك بقوى ذات طموحات مضادّة ومشروع مختلف، ما أشعل صراعا جديدا في اليمن زاد الوضع تعقيدا وحوّل الحرب التي انطلقت في البداية بين معسكرين متباينين وواضحي المعالم هما معسكر الشرعية ومعسكر الانقلاب الحوثي إلى متاهة من الصراعات يصعب توقّع طريقة الخروج منها وما يمكن أن تؤول إليه.
إنّ الصراع الذي تخوضه القوات التابعة لحزب الإصلاح والتي باتت المكوّن الرئيسي في القوات العاملة تحت لواء الشرعية اليمنية في محافظات أبين وعدن وتعز وأرخبيل سقطرى، هو بمثابة محاولة من إخوان اليمن للتعويض عما خسروه إلى غير رجعة في شمال البلاد وغربها، حيث لا يبدو أنّ ثمة أفقا حقيقيا لاستعادة تلك المناطق من أيدي الحوثيين ودمجها مجدّدا في دولة موحّدة مع باقي أنحاء البلد ومناطقه.
وعلى الرغم من تحقيق قوات الإصلاح لبعض المكاسب على الأرض أهمّها الاحتفاظ بالسيطرة على محافظة مأرب الواقعة شرقي العاصمة صنعاء والغنية بالنفط، إضافة إلى وجود تلك القوات في مناطق من أبين وشبوة وتعز، إلاّ أنّ تماسك تلك القوّات وقدرتها على مواصلة الصراع لا يخفيان المأزق الذي وصل إليه المشروع الإخواني في اليمن والتراجع الكبير في طموحات الجماعة.
فأغلب المناطق التي يقاتل الإخوان حاليا للسيطرة عليها تمثّل جزءا أساسيا من أراضي دولة الجنوب التي تطمح قوى جنوبية إلى استعادتها، بعد أن تراكمت مبرّرات ذلك وتوفرت الظروف السانحة لتحقيق هذا الطموح الذي لم يغب قط عن أذهان الكثيرين من سكان جنوب اليمن ونخبه بعد الوحدة التي تحققت في مطلع تسعينات القرن الماضي والتي ظلت في أذهان معارضيها بمثابة احتلال شمالي يتوجب النضال لإزالته.
وبعد النجاح في إنهاء سيطرة الحوثيين على مناطق بجنوب اليمن على رأسها مدينة عدن التي احتلت الجماعة أجزاء منها لفترة وجيزة سنة 2015، وبفعل الدور الكبير الذي لعبته قوات جنوبية في استعادة تلك المناطق إضافة إلى دورها في مواجهة تنظيم القاعدة الذي حاول استغلال الظرف والتمدّد في بعض المناطق واحتلالها على غرار مدينة المكلا مركز محافظة حضرموت، أصبح لفكرة استعادة دولة الجنوب حامل سياسي وعسكري قوي يتمثّل في المجلس الانتقالي الجنوبي الذي بات القوّة الرئيسية في مواجهة حزب الإصلاح الإخواني وقوّاته، لسبب رئيسي هو أنّ المناطق التي يسعى الحزب للسيطرة عليها هي جزء أساسي من الأراضي التي يريد المجلس أن يقيم عليها دولة الجنوب مجدّدا.
ويجاهر قادة المجلس الانتقالي ومناصروه بذلك الهدف تصريحا لا تلميحا، حيث يقول أحمد عمر بن فريد رئيس دائرة العلاقات الخارجية للمجلس الانتقالي الجنوبي في أوروبا إنّ الجنوب سيعود دولة مستقلة كاملة السيادة على حدود ما قبل 21 مايو 1990 وفق الأعراف والقوانين الدولية التي كفلت للشعوب حق تقرير المصير.
ويضيف في موضع آخر، مخاطبا حميد الأحمر القيادي في حزب الإصلاح الذي هدّد بدخول قوات الحزب إلى عدن، “يا حميد أفق لنفسك وحاول أن تحرّر صنعاء. أما الجنوب العربي فلك أن تفهم أنه لن يكون جزءا من مشروع الإخوان الذي تتبناه أنت وحزبك”.
غطاء مهترئ
ثانية المعضلات التي باتت تواجه مشروع الإخوان في اليمن تتمثّل في أوضاع الشرعية التي يحاولون تمرير مخطّطاتهم وتحقيق أهدافهم من خلالها، تنفيذا لتكتيكهم المعروف والمطبّق من قبلهم في عدّة أقطار عربية مع تفاوت في النتائج المتحقّقة من وراء ذلك التكتيك. فهي ليست فقط شرعية متهالكة وفاقدة للمصداقية وعديمة التأثير على الأرض ومشكوك في سيطرتها على قرارها، بل هي بدورها لا أرض لها عمليا، فمناطق شمال اليمن بيد أعدائها الأُوّل الحوثيين.
أما مناطق جنوب وشرق اليمن فمحلّ تنازع ولم تستطع الشرعية الاستقرار فيها وفرض سلطتها عليها بالكامل إمّا لرفض السكان المحلّيين لها، أو بسبب تصدّي قوات المجلس الانتقالي لقوّاتها التي هي بالأساس قوات حزب الإصلاح الإخواني، وهو ما ينطبق على عدن وعلى جزيرة سقطرى في المحيط الهندي، وأيضا على أجزاء من محافظات تعز وأبين وشبوة حيث لا تزال الحرب سجالا بين المجلس والشرعية.
وفي توصيفه لحال الشرعية اليمنية يقول سالم ثابت العولقي عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي “ندرك جيدا أن الشرعية لم تكن سوى غطاء لأجندة الإخوان المسلمين طيلة خمس سنوات، وهذا الغطاء لم يعد بالإمكان استمراره اليوم. فالمرحلة متسارعة الخطى”.
لقد اعتقد قادة حزب الإصلاح عندما أزيح علي عبدالله صالح عن السلطة أنّ مشروع جماعة الإخوان المسلمين التي يمثّلونها في اليمن قد لامس الأرض ووجد له تربة خصبة على أرض الجزيرة العربية محطّ الآمال الاستثنائية للتنظيم الدولي للإخوان، فإذا بهؤلاء يصطدمون بعد سنوات من الصراع السياسي والعسكري بأنّ عليهم مواصلة القتال لمجرّد الحفاظ على موطئ قدم على الأرض. وحتى هذا الهدف لا يبدو مضمون التحقّق مع وجود منافسين شرسين للإخوان وأكثر منهم واقعية ودقّة في الحسابات.