ناقش مفكرون وباحثون موضوع الديمقراطية التوافقية الدستورية ونموذج حل الصراع في اليمن، وذلك ضمن لقاءات منتدى الفكر العربي عبر تقنية الاتصال المرئي، من العاصمة الأردنية عمّان.
وقدم عبد الحميد سيف الحدي عضو المجلس الاستشاري اليمني وعضو المنتدى، محاضرة تناول فيها مستقبل النظام السياسي في اليمن كنموذج لتطبيق الديمقراطية التوافقية.
وشارك في مداخلات هذا اللقاء الذي أداره د. محمد أبو حمور الوزير الأردني الأسبق والأمين العام للمنتدى وكل من د. محمد أحمد المخلافي وزير الشؤون القانونية اليمني الأسبق، ود. فيصل الرفوع الوزير الأسبق وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية/ عضو المنتدى، ود. محسن العبودي أستاذ القانون العام في أكاديمية الشرطة في مصر/ عضو المنتدى، ود. أدونيس العكره أستاذ الفلسفة والفكر العربي ورئيس مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية في لبنان، وعبد الناصر المودع الكاتب والباحث اليمني.
وأوضح المحاضر عبد الحميد سيف الحدي التطورات التاريخية وعوامل الصراع في اليمن؛ مؤكداً أن مفهوم الديمقراطية التوافقية الدستورية هو الأكثر ملاءمة لمستقبل النظام السياسي، لأنه يجعل كل القوى والتنظيمات السياسية والمستقلة تشارك في السلطة ضمن الأغلبية البرلمانية (السلطة التشريعية)، وبالتالي تعميق الوحدة الوطنية بينها ضمن حرية المشاركة، والاقتراب من الدولة المدنية التي تحافظ على الجميع وتحميهم.
الديموقراطية التوافقية
وتناول المشاركون في المداخلات أبعاد الديمقراطية التوافقية من حيث أنها تتيح تعزيز بناء القدرة الذاتية للوطن في إطار الهوية الجامعة، وأن التوافق والتعددية الحزبية ضمانة للانتقال إلى الروابط السياسية بدلاً من الروابط المذهبية، وتأكيد دور السلطتين التشريعية والتنفيذية كحجر أساس وإرساء الأمان بالتوافقية والدولة المدنية.
كما أشار بعض المتداخلين إلى أن النسبية لا تقتصر على السلطة وإنما تشمل كل مرافق الدولة الإدارية، وأن عدم التطبيق الحرفي للدستور يضر بالوحدة ويبقى ناقصاً إذا لم يقترن بحُسن النية، كما أن الديمقراطية التوافقية مهمة لكن دون الإخلال بالحكم الرشيد والتحول للمحاصصة السياسية أو الطائفية أو الجهوية وإتاحة المجال للتدخل الخارجي.
رعاية البرامج
وأشار الحدي إلى ضرورة الاهتمام وإيلاء الرعاية الكافية للخطط والبرامج والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك اعطاء التعليم العام والعالي والفني والتقني والمهني رعاية خاصة، بوصفه الأولوية القصوى للتنمية والقاعدة الأساسية لبناء الإنسان.
وقال الحدي: إن حرية المواطن في الاختيار والمشاركة في المسؤولية السياسية تترسخ عبر الانتخابات البرلمانية والمحلية ؛ داعياً إلى أن يكون البرلمان هو من ينتخب بالوسائل الديمقراطية أعضاء المجلس الجمهوري كقيادة جماعية تتناوب على الرئاسة سنوياً، مع افساح المجال للمرأة في عضوية هذا المجلس . ويأتي هذا النظام على غرار تجربة الاتحاد السويسري منذ عام 1848.
وأضاف الحدي أن الديمقراطية التوافقية الدستورية تهدف إلى تعميق الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإصلاح القضاء والمحافظة على استقلاله كونه الضمانة الحقيقية لاحترام حقوق الإنسان وحرياته واحترام الرأي والرأي الآخر، مع بناء أجهزة الأمن والقوات المسلحة على أسس وطنية راسخة كضمانة لتطبيق القوانين وتعزيز سلطة القضاء. وكذلك تثبيت التعددية السياسية على أساس وطني شامل وليس مناطقياً أو جهوياً أو فئوياً أو طائفياً، والحفاظ على الوحدة الوطنية.
النهضة الجديدة
وأشار الوزير الأسبق والأمين العام لمنتدى الفكر العربي د. محمد أبو حمور إلى أن مفاهيم بناء النهضة الجديدة وبناء المستقبل العربي هي جزء من انشغالات المؤسسات الفكرية والمفكرين، ومنها قضايا التحول والتطور الديمقراطي، التي تعتبر مؤشرات مهمة على التحولات التاريخية العميقة في المجتمعات العربية لتحقيق الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية والمشاركة، بوصفها الأسس التي يقوم عليها الاستقرار والتنمية.
وقال د. أبو حمور: إن خلاصة الحوارات التي عقدها منتدى الفكر العربي منذ عام 2012 حول مضامين الأوراق النقاشية الملكية السبع لجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، أكدت أن التجارب العربية في قضايا الإصلاح والديمقراطية يمكن أن تكون مجالات استفادة للأشقاء بين بعضهم البعض؛ مشيراً إلى أن الديمقراطية التوافقية هي صيغة متقدمة للحفاظ على الوحدة والتماسك الاجتماعي بين مختلف المكونات، وضمان حقوق الجميع والفرص المتساوية في المواقع والثروة والممارسة السياسية، من خلال إتاحة المجال لتعزيز بناء القدرة الذاتية للوطن في إطار الهوية الجامعة.
المبادرة الخليجية
ومن ناحيه، أكد د. محمد أحمد المخلافي وزير الشؤون القانونية الأسبق في اليمن أن التجربة اليمنية في الديمقراطية التوافقية خضعت للتطبيق العملي طيلة الفترة الانتقالية حتى الانقلاب عليها وإيقاف عملية الانتقال، واكتسبت القواعد المنبثقة عن اتفاق المبادرة الخليجية واتفاق تنفيذ العملية الانتقالية قوة القواعد الدستورية إذ أعطيت أولوية التطبيق على قاعدة الدستور النافذ، وكانت القرارات سواء في الحكومة بين الكتلتين الرئيسيتين أحزاب اللقاء المشترك والمؤتمر الشعبي أو البرلمان، تتخذ بالتوافق بين الكتل بمن فيهم المستقلون في مجلس النواب، وكذلك على صعيد القرارات المتعلقة بمصير التنمية أو المستقبل السياسي، وغيرها من المسائل ذات التأثير الكبير على المجتمع.
ودعا د. المخلافي إلى الأخذ بمخرجات مؤتمر الحوار الوطني وتنفيذها في إدارة الدولة الجديدة في اليمن في الفترة ما بعد الانتقالية وانتهاء النزاع والحرب؛ مشيراً إلى أن العلاقات القبلية تترسخ بالنظام الفردي، فيما التوافق والتعددية الحزبية يعززهما النظام الانتخابي النسبي للانتقال إلى الروابط السياسية بدلاً من الروابط المذهبية والدينية.
وقف التناحر
وقال د. محسن العبودي أستاذ القانون العام في أكاديمية الشرطة في مصر: إن تطبيق الديمقراطية التوافقية الدستورية من شأنه أن يؤدي إلى وقف التناحر والاقتتال في الشرق؛ مشيراً إلى أن ذلك ينبغي أن يترافق مع بناء الإنسان بالتعليم والتثقيف لتجاوز معوقات الأمية والتخلف.
وأضاف د. العبودي أن قيام المجتمع المدني لا يتم إلا بائتلاف القوى الوطنية الحزبية والمستقلة، ووعي الإنسان بالواجبات والحقوق، وبحيث تشكل السلطتان التشريعية والتنفيذية حجر الأساس للدولة؛ موضحاً أن الأمان لا يتحقق إلا بالديمقراطية التوافقية والدولة المدنية ؛ وقال : إن العلمانية ليست كفراً ؛ داعياً في هذا الصدد إلى التفكير بما هو نسبي وليس بما هو مطلق، مما يتيح للرأي والرأي الآخر أن يدعما الدولة وتحالف قوى الشعب.
تحقيق العدالة
وأوضح د. أدونيس العكرة رئيس مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية في لبنان، أن الديمقراطية التوافقية في تعريبها من السياق الغربي هي صورة من صور تحقيق العدالة والحرية والمساواة لمجتمعات مركبة، بمعنى أنها مجتمعات ذات انقسامات عمودية بين مكوناتها، كأن تكون هذه المكونات من أعراق مختلفة تضمن لها الديمقراطية التوافقية الحفاظ على هوياتها العرقية واطمئنانها إلى مواطنتها في دولة واحدة.
وطرح د. العكرة بعض الملاحظات حول نسبية التمثيل مشيراً إلى أنه قد يوجد ائتلافاً بين مَن وصلوا إلى السلطة، في الوقت الذي سيضعف من دور المعارضة التي تراقب وتحاسب وتسائل.
كما أن هذه النسبية لا تقتصر على مَن هم في السلطة، وإنما يجب أن تشمل كل مرافق الدولة الإدارية، مع الحيلولة دون أن يكون ذلك على حساب بعض الكفاءات بسبب قلة نسبة المكون الذي تنتمي إليه، ودون حدوث جمود في الحياة السياسية باعتماد الفيتو المتبادل إذا كان هناك قرارات تضر ببعض المكونات.
خريطة آفاق
وأشار د. فيصل الرفوع الوزير الأسبق وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية، إلى أن الأفكار التي طرحها الأستاذ الحدي في محاضرته هي بمثابة خريطة لآفاق الخروج مما أصاب اليمن من التشرذم باعتماد العقل والمنطق والمصلحة القومية، وأن نظرية الديمقراطية التوافقية تعد حلاً يمنع استبداد احدى المجموعات على غيرها، ويعطي المجموعات الصغيرة مساحة من الممارسة في الحياة السياسية العامة، ويتيح تحقيق إرادة الأغلبية والأقلية.
وأكد د. الرفوع أن عدم التطبيق الحرفي للدستور في هذا المجال يضر بالوحدة، كما أن عدم التطبيق الدستوري يبقى ناقصاً إذا لم يقترن بحُسن النية.
وقال الكاتب والباحث اليمني عبد الناصر المودع: إن الديمقراطية التوافقية مهمة في المبدأ لكن دون الإخلال بمسألة الحكم الرشيد كما حدث في بعض البلدان العربية، ودون أن تتحول إلى محاصصة عرقية وطائفية وجهوية تتيح المجال للتدخل الخارجي وتفتح الباب أمام دولة وصاية، مما يفقد الدولة سيادتها ويصبح وجود الشعب والأرض محكوماً بسلطات متعددة.
وأشار المودع إلى أن الديمقراطية التي لم تنجح في المجتمعات العربية، هي ديمقراطية مَن يفوز في الانتخابات فيدخل السلطة ومَن يخرج يصبح في صفوف المعارضة.