لم يكفِ كشف وزير الخارجية الأميركي العلاقة بين طهران وتنظيم “القاعدة”، ولم يكف قراره تصنيف جماعة الحوثيين منظمة إرهابية، للإقناع بأن ثمة “جديداً” في السياسة الأميركية سيكون ملزماً للإدارة الجديدة برئاسة جو بايدن.
والسؤال الذي طرح نفسه: لماذا انتظر مايك بومبيو نهاية ولاية دونالد ترامب للإدلاء بهذين المعطيين؟ خصوصاً أن واشنطن ذهبت إلى أبعد حدّ في “الضغوط القصوى” على إيران، وكانت قد صنّفت الحرس الثوري نفسه منظمة إرهابية. إذا أُجيب بأنه استهدف وضع عقبات إضافية أمام إدارة بايدن لدى مقاربتها الأزمة مع إيران، فالأرجح أنه لن يكون مجدياً.
صحيح أن هناك فارقاً بين تسريبات أميركية عن إيران و”القاعدة” وبين اتهامات أميركية رسمية لطهران بأنها أصبحت “مقرّاً جديداً للقاعدة”، لكن الصحيح أيضاً أن إدارة باراك أوباما ونائبه بايدن انخرطت في مسار تفاوضي وفّرت فيه نوعاً من “الشرعية” للسياسات الإيرانية، متجاهلةً ما تعرفه عن علاقتها بالتنظيم الإرهابي، وعن دورها المحرّك (بمساهمة من النظام السوري) في عمليات “القاعدة” ضد القوات الأميركية في العراق حتى العام 2011.
أما القول بأن جعل الاتهامات رسمية، للمرّة الأولى، يُلزم الإدارة باتخاذ قرار فربما يشكّل إرباكاً، باعتبار أن واشنطن لا تتساهل مع دولة تؤوي “القاعدة”، وقد غزت أفغانستان – “طالبان” لأنها كانت مقرّاً معلناً للتنظيم، ثم غزت العراق بذرائع عدّة، بينها أن نظامه السابق أقام تعاوناً مع ذلك التنظيم، ما تأكّد لاحقاً أنه ادّعاءٌ ملفّق. إذاً، تجاهلت إدارتا جورج بوش الابن وأوباما وجود “القاعدة” في إيران، الأولى لأنها غرقت في مستنقعَي أفغانستان والعراق، والثانية لأنها توهّمت أن في إمكانها “تغيير سلوك” النظام الإيراني فأبرمت معه الاتفاق النووي تحقيقاً لمصلحة أميركية لكن الكونجرس لم يقرّه، وتحقيقاً لمصلحة إسرائيل التي رفضته وواصلت رفضه حتى بعدما نالت “تعويضاً” من إدارة أوباما. في الوقت نفسه بيّنت الوقائع أن واشنطن لم تراعِ في الاتفاق مصالح الدول الصديقة في الخليج العربي.
يُستنتج من كل ذلك أن إدارة ترامب اتّبعت المزج بين السياسات، فانسحبت من الاتفاق النووي برغم اعتراض الحلفاء الأوروبيين، وطالبت بالتفاوض على اتفاق معدّل يعالج الثغرات (المهل الزمنية، البرنامج الصاروخي، السياسات الإقليمية) التي أُبقيت في نسخة 2015. في المقابل ذهبت هذه الإدارة بعيداً في وضع إيران أمام خياري التفاوض (بالشروط الأميركية) أو المواجهة التي اقتربت من الأرض الإيرانية بعدما حمّلت طهران مباشرةً مسؤولية ارتكابات الميليشيات التابعة لها. هل كان ملف “القاعدة” في طيّات هذه السياسة الترامبية؟ هذا ما ترجّحه المعلومات التي كشفها الوزير بومبيو، سواء بتبنّيه غير المباشر دوراً أميركياً في قتل الرجل الثاني في التنظيم (عبدالله أحمد عبدالله “أبو محمد المصري”) في طهران (أغسطس 2020)، أم بتأكيده خصوصاً للداخل الأميركي أن العلاقة بين إيران و”القاعدة” تعود إلى ما قبل هجمات 11 سبتمبر 2001، وأن طهران ساعدت في التخطيط لهذه الهجمات.
كانت واشنطن على الدوام موضع مساءلة من عواصم غربية وعربية عن معلومات في شأن تنظيم “القاعدة” وعلاقته بإيران، ولم تكن متعاونة إلا في حالات محدودة. وما صرّح به بومبيو عن مخاطر على فرنسا وألمانيا قد يكون صحيحاً وقد يكون مجرّد توبيخ آخر لسياستيهما “الناعمة” حيال إيران، لكن إشارته كانت واضحة إلى أن طهران ستستخدم التنظيم في جوارها العربي خلال المرحلة المقبلة. وفي أي حال كانت تصريحاته مناسبة للتذكير بأن مسؤولين إيرانيين سبق أن اعترفوا بأن التنظيم موجود لديهم “تحت السيطرة” وأنهم يحتفظون به كـ “ورقة للمساومة”.
وعموماً يشكّل تصنيف الحوثيين وإعلان ارتباط إيران بـ “القاعدة” إشارتين من إدارة ترامب إلى أن إدارة بايدن مستعدة لتنازلات لإيران، ولذلك فهي زادت في الفترة الأخيرة ضغوطها وعقوباتها على “حزب الله” و”الحشد الشعبي”، كما كثّفت إسرائيل (بتنسيق مع أميركا) ضرباتها للحرس الثوري وميليشياته في سوريا.
وفي هذا الإطار، يمكن تفسير حرص إدارة ترامب على وضع الحوثيين في قائمة الإرهاب، برغم اعتراضات الأمم المتحدة ومنظماتها الإغاثية. لا شك في أن الاعتبارات الإنسانية بالغة الأهمية في ضوء المعاناة القاسية التي يعيشها الشعب اليمني في مناطق السيطرة الحوثية، ولا مبالغة في التحذير من المجاعة فهي واقعة حالياً وتساهم جرائم الحوثيين في توسيع رقعتها، إذ أنهم يضيّقون على حركة المساعدات وينهبون معظمها ويمارسون التمييز والابتزاز في توزيعها.
لذلك بات إنهاء الحرب وحلّ الأزمة ملحّين في اليمن، ويبدو أن إدارة بايدن تعتزم إعطاء أولوية لهذا الملف في أي تفاوض مع إيران، وإذا حصلت هذه الأخيرة على رفع جزئي للعقوبات فربما تبدي شيئاً من الإيجابية، لكنها ستصرّ على مكافأة إرهاب الحوثيين وجرائمهم بمكاسب تبقيهم في موقف قوّة حتى لو لم تكن متناسبة مع حجمهم الطبيعي في المجتمع اليمني.
فهل تستطيع إدارة بايدن تجاوز الإرهاب الفعلي للحوثيين قبل تصنيفهم وبعده؟ الأكيد أنها لن تقدّم التنازلات مجاناً، لكنها لن تكمل نهج “الضغوط القصوى” على إيران.
الواقع أن الأمم المتحدة والدول الكبرى المعنية لم تستوعب دروس تجربة “طالبان” في أفغانستان، ولذلك لم تُظهر الاهتمام اللازم بخطورة استنساخها، إذ أن ميليشيا مماثلة كالحوثيين تستولي بالقوة والترهيب على عاصمة عربية وأجزاء من اليمن وتُعامل مواطنيها كرهائن يمكن التصرّف بحياتهم وقوتهم ومصيرهم، بل تستهزئ بأي عقوبات تُفرض على قياديها وبتصنيفها منظمة إرهابية.
هذا النموذج العابث والمتفلّت من أي ضوابط هو صنيعة إيران، وقد شقّ طريقه في العراق عبر ميليشيات “الحشد الشعبي”، وفي لبنان عبر ميليشيا “حزب الله”، وفي سوريا عبر اختراق الجيش النظامي واستقدام ميليشيات مذهبية من جنسيات عدّة. لا تختلف تجربة تنظيمي “القاعدة” و”داعش” عمّا تفعله الميليشيات الموالية لإيران لكن الفارق أنها تمتلك أسلحة متطوّرة وترسانات صاروخية.