كأنَّ البشر استفاقوا فجأة واكتشفوا أن لهم أجساماً تستحق كل العناية والاهتمام، وأن يحافظوا على شبابها وقوتها، ويحموها من الترهل وهم شباب علها تبقى هكذا إلى الأبد. لا شك في أن الحفاظ على الجسم شاباً ومحاولة تخليده حُلم قديم، رافق البشر منذ فجر الحضارات. فكان جلجامش، بطل الأسطورة السومرية، أول من بحث عن أكسير الحياة. كما حنّط الفراعنة أجسامهم ليحفظوا وعاء الروح وأدواتها إلى أن يعود إلى الحياة ذات يوم. أما الحضارة الهندية فكانت تعتقد بالتقمص، أي إن الأرواح تغيِّر أوعيتها إلى ما لا نهاية.
أراد الإنسان الحديث تطبيق المقولة الذهبية "العقل السليم في الجسم السليم" حرفياً، حتى صار بالإمكان القول إن الجسم السليم يجعل العقل سليماً، بل تجاوزه إلى مفهوم عصري سائد بين البشر يكاد يقول إن الإنسان هو جسمه، ويبتعد كثيراً عن المفهوم القديم الذي يقول باحتقار الجسم واستعلاء النفس وأولويتها عليه. وبعد تطوُّر فيزياء الكم وتقنيات النانو والتقدُّم الحاصل في علوم الحياة وعلوم الأعصاب، أمكن التعرُّف على الدماغ وعلى كيفية عمله، وهذا ما يمكِّن من فهم الآليات البيوكيميائية التي تحمل انفعالاتنا ورغباتنا وتنقلها، وأنه يمكن التأثير عليها ومعالجتها.
الحدس الإنساني
تعرَّفت الأبحاث في ميادين علم الأعصاب واقتصاد السلوك على كيفية اختيارنا للطعام وصولاً إلى اختيار الشريك. وقد بيَّنت أن خياراتنا تنتج عن قيام مليارات العصبونات بحسابات الاحتمالات في جزء من الثانية، وأن الحدس الإنساني يعتمد دائماً على "التعرُّف على الأشكال" أولاً. وهنا تكمن أهمية الجسم في تفاعلاتنا مع الآخرين. كما أن دماغنا يعمل وفق ألغوريتم بيوكيميائي خاص به، أي إن أدمغتنا تعمل كحاسوب بواسطة هرمونات ومواد عصبية ناقلة.
صار اليوم بالإمكان زراعة ذراع بيونية يحرِّكها الدماغ كالذراع الحقيقية، أو شبكة عين تعيد البصر للمكفوف، أو شريحة بيونية مكان عصب السمع. ولكن من دون أن ندخل في نقاش حول علاقة الجسم بالنفس والروح وكيف تتحوَّل الجزيئات المادية إلى طاقة (بحسب فيزياء الكم)، فقد أصبحنا نعي أهمية الجسم ونريد الحفاظ عليه بأفضل السبل، وذلك من خلال التمارين الرياضية القادرة على إكسابنا قدرات هائلة.
كيف تقدَّم الاهتمام بالجسم؟
ارتبط ظهور الجسم للعيان ببروز الفرد، وشكَّل الإعلان عن حقوق الإنسان، تصريحاً بانتصار حق الفرد بالوجود. وكان ذلك افتتاح الحقبة التي أُعطيت الأولوية فيها للحياة الفردية الخاصة. وهكذا صار الجسم من بين أحد أبرز الاهتمامات العصرية.
منذ مطلع القرن العشرين، برز عصر جديد بدأت فيه المجلات النسائية تلفت نظر النساء إلى أهمية العناية بمظهرهن الخارجي، وبدأت تُغْني صفحاتها بفقرات جديدة: الرياضة اليومية، وبرز هناك ما بات يعرف بـ "الجسم الرسمي" أو (The official body) كما أطلقت عليه الكاتبة الأمريكية نعومي وولف في كتابها "أسطورة الجمال". كذلك برز همّ تناول الوجبات الخفيفة: المشويات والخضار. ولم يعد امتلاك البطن علامة احترام وثروة، فالدهن الفائض يُتعب الجسم. تعمّم الاهتمام بالجسم، فصار: التزلج والتنس والسباحة والمشي والهرولة، أي الرياضة باختصار، بكل أنواعها، ترجمة لاتخاذ الجسم غاية للنشاط ووسيلته في الوقت نفسه.
في نهاية القرن العشرين تعممت النشاطات الجسمانية، وغايتها الوحيدة الجسم نفسه فقط: مظهره، رفاهيته وراحته وتفتحه. "أن تشعر بالراحة في جلدك" صار المثال. ومنذ بدايات القرن الماضي كان انتشار الرياضات الشعبية، ونُزُل الشباب وبيوت استضافتهم، ومراكز التخييم والنشاطات المتعدِّدة مع تكاثر العطل لدى العمال، يسهم بانتشار عادات النظافة والعناية بالجسم.
الرياضة المنظَّمة
ترافق كل ذلك مع شيوع الألعاب الرياضية المنظمة جماعياً في إطار الألعاب الأولمبية التي أصبحت صناعة قائمة بحد ذاتها، بعيداً عن ألعاب القرون الغابرة التي اقترنت بالعنف والسادية كما كان يحصل في روما. فتغيَّرت ألعاب الكرة وألعاب القتال بشكل تام وصارت على شكل مواجهات ذات قواعد، وتخففت من العنف مع جهود مستمرة لحظر الألعاب الأعنف، ولبلورة قواعد لعب تختزل المواجهة العشوائية وتحدِّد المدة والشروط التقنية للقتال، إلخ… فتلطفت وتحوَّلت الألعاب من العنف إلى نشاط أقرب إلى المحاكاة منه إلى القتال الفعلي بحيث تصبح حياة القائمين بها غير معرَّضة للخطر.
ترافقت هذه النشاطات والألعاب الرياضية، مع اهتمام العمال بأجسامهم، بقوتها وقدرتها على التحمل. فبرزت صورة جسم العامل، الرجل الضخم ذي العضلات المفتولة، وتنوعت الملصقات التي تبرزه، وملأت الساحات في منظومة البلدان الاشتراكية التي احتفلت بالقوة الجسمانية للعامل الذي يتعب في خدمة المجتمع.
وإن كان الرياضيون يمضون جلّ حياتهم في صقل أجسامهم وإعدادها للمباريات، إلا أن كثيرين صاروا يخصصون أوقاتاً أساسية لممارسة الرياضة، يستقطعونها من برنامجهم اليومي.
التجميل ليس حلًّا
كان الجَمَال في مرحلة معيَّنة هو ما نضيفه على المظهر الخارجي من إكسسوارات وملابس ومجوهرات، وكان يرتبط أساساً بالغنى. لكن ذلك كله لم يعد مقنعاً، فقرَّر الإنسان أن تجميل الجسم من الخارج غير كافٍ، بل يجب أن يكون الجسم نفسه جميلاً. ولكن التوصل إلى هذا الجمال يتطلب جهداً، وعلى المرأة، بحسب مقولة فرنسية قديمة: "أن تتعذب كي تصبح جميلة"، أو بالأحرى أن تكسب جمالها بعرق جبينها. وكل ذلك يتماشى مع علاقة الإنسان الحديث بالرياضة. ففي نمط الحياة الحديث، ناهيك عن زمن الحجر الكوروني، لم يعد تسلق الأشجار أو تمضية الوقت في الصيد ولا في الزراعة والأعمال البدنية سائداً؛ فالعادات والأعمال التي طالما حركت أجسام أجدادنا لم تعد ممكنة أو متاحة. لذا، إذا أراد الفرد الحفاظ على لياقته البدنية، عليه إذن بممارسة الألعاب الرياضية.
عرفت الرياضة الفردية نجاحاً متزايداً مع انتشار رياضة الركض (jogging) في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وعرفت نهاية القرن العشرين شيوع الأندية المختصة بتمرين الجسم والحفاظ على ليونته وشبابه الدائم. وأخذت أخبار الرياضة وإنجازاتها تحتل الصفحات الأولى من الصحف إلى جانب أخبار الحروب، وصار الجسم البشري هو ما يملأ اللوحات الإعلانية في المدن ويجتاح الشاشات المتلفزة. ولكن تمجيد الجسم والبحث عن تفوقه هو من اختراع المجتمعات الحديثة، بينما مارس اليونانيون الرياضة من أجل تمجيد القوة أو لممارسة القسوة أو التغلب على الآخر، ومن أجل الاحتفالات الدينية. لكنها لم تكن لنحت الجسم وقولبته. ولهذا، هناك الآن كثير من الاختصاصيين الذين هم على أتم الاستعداد من أجل مساعدتنا في ذلك.
ومن الروَّاد في هذه الصناعة عارضة الأزياء الأمريكية الشهيرة سيندي كراوفورد، والممثلة والمدرِّبة الرياضية جين فوندا، اللتان سجلتا شريطَيْ فيديو من أجل العناية بالجسم بعناوين مباشرة، مثل "اصقلي جسمك"، و"التحدي المقبل". وقد قامت كل منهما بإضافة الموسيقى إلى هذه الجلسات الرياضية الحديثة وذلك، ربما، تطبيقاً لمقولة يونانية قديمة تقول "رياضة للجسم وموسيقى للروح".
ما الذي ينتظرهم؟
عند مشاهدة أعداد المتريضين المتزايدة في المدن وساحاتها وحدائقها أو شواطئها! نتساءل ما الذي ينتظرهم هناك؟
قد يكون جهاز المشي، وهو الجهاز الأول في الصالات الرياضية، يمثل استعارة مثالية لاتجاهات اللياقة البدنية الحديثة هذه، فيعكس مساراً لا نهاية له من الحركة التي تتطوَّر بشكل أسرع وأسرع، ولكنها لا تؤدي في النهاية إلى أي مكان. إلا أنها للجسم الكامل، الجسم الجميل، الجسم المشدود، الجسم المتناسق، الجسم النحيل هو المنشود.
لقد أصبحت الرياضة الصباحية جزءاً مكملاً للعناية بالجسم، والسمة التي طبعت نهاية القرن العشرين. لم تعد السُّمنة مرغوبة، ولم تعد تعبِّر عن اليسر والرفاه، بل صارت منذ مدة تعبِّر عن الإهمال أو الشره أو عدم اللياقة، لأنها تفضح عدم القدرة على الانضباط أمام إغراءات الطعام المتوفر بيسر. فالطعام صار الآن متوفراً بكثرة وبشكل فائض وأصبحت المهارة تكمن في الاحتفاظ بالرشاقة على الرغم من توافر الطعام. لم تعد الجميلات هن اللواتي تم تصويرهن في لوحات رسمها فنانون مثل تيتيان ورامبرانت وروبنز، حيث رسمت المرأة الممتلئة القوام ولا التي عشقها العرب في الزمان الماضي والتي كانوا يطلقون عليها "الخديجة" أي ممتلئة الذراعين والساقين، أو خرساء الأساور التي تمتد بدانتها إلى الرسغ فتمنع ارتطام أساورها بعضها بعضاً.
هذا الجسم المقترب من الكمال، تعطينا إياه المرآة للتأمل، للإعجاب، للنظر. خاصة أن المرآة لم تعد حكراً على طبقة الأغنياء فقط لأنها كانت، وإلى وقت قريب، باهظة الثمن. حتى إن الفيلسوف الروماني سينيكا سَخِرَ من المبالغ التي كانت النساء على استعداد لإنفاقها على المرايا فقال: "بالنسبة لواحدة من هذه المرايا المصنوعة من الفضة أو الذهب المحفورة والمرصَّعة بالأحجار الكريمة، تُنفق النساء مبلغاً مساوياً للمهر الذي تقدِّمه الدولة لمساعدة بنات الجنرالات الفقراء!".
ولم تعد المرآة تلك القطعة الصغيرة الدائرية التي تمسك بها المرأة لتحسين شكل حاجبيها أو الرجل لحلاقة ذقنه، بل صارت مرافقة لنا: في غرفة النوم وفي الحمَّام (وكلما كانت مرآة الحمَّام أكبر كانت الشقة أغلى ثمناً، أو العكس طبعاً)، كما تحضر المرايا في الصالونات وفي مداخل البيوت وفي بهو الفنادق وفي المقاهي وفي الشركات والمصارف.. أنّى توجهت تطالعك المرايا. فهل يمكن أن نقبل الانعكاس المستمر لصورة غير جميلة! جسد مترهل أو سمين!
لمحة عن مستقبل الجسم على ضوء تطوُّر العلوم والتقنية
إن تقدُّم العلوم، وخاصة الصحية منها، سيساعد في التمكين من صقل القوام الحسن، على غرار ما فعلته المتممات الغذائية خلال العقود الأخيرة. ولكن فضاء العلوم أرحب من ذلك. فكل أفلام الخيال العلمي تقدِّم لنا سيناريوهات يكون فيها البشر الذين يعيشون في المستقبل - مشابهين لنا - لكنهم يتمتعون بتكنولوجيا متقدِّمة: مركبات فضائية وتنقل بسرعة الضوء وأسلحة ليزر، بحيث تكون التحديات الأخلاقية والسياسية التي يصادفونها مأخوذة عن عالمنا ويكرِّرون نفس التوترات الانفعالية والاجتماعية لكن على أرضية مستقبلية. لكن يمكن للتقنيات المستقبلية أن تغيِّر الإنسان نفسه بجسمه وليس فقط مركباته وأسلحته، فالسيبورغ كائن مختلط بين أجزاء عضوية وأخرى ميكانيكية أو روبوتية، وعندما لا يعود الكائن بشرياً أو عضوياً تماماً، يصبح شيئاً آخر مختلفاً تماماً؛ يظل شاباً إلى الأبد، ولا يتوالد، ويمكنه أن يتشارك أفكاره مباشرة مع الكائنات الأخرى، كما أن قدراته على التركيز والتذكر ستصبح أكبر بألف مرَّة مما لدينا، وهو لا يغضب ولا يحزن. وربما لديه انفعالات ورغبات قد لا نتمكن من تخيلها! كائن لا يمكننا حتى أن نقدِّر ما قد يشكله من انعكاسات فلسفية وسيكولوجية وسياسية. أمامنا عدَّة سنوات قبل الوصول إلى هذا.