في أواخر أغسطس من العام 1982، تداعى ألفٌ من رجالات اليمن، يمثلون مختلف المناطق اليمنية والأطياف السياسية والاجتماعية والثقافية، بقيادة الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح، الذي لم يمضِ على تسلمه السلطة في البلاد آنذاك سوى أربع سنوات. وعقب أيام من المشاورات المكثفة خرجوا بإعلان إطار سياسي ذي طابع يمني، تحت مسمى "المؤتمر الشعبي العام"، ليشكّل منعطفًا حاسمًا في مسيرة الثورة اليمنية الجمهورية، 26 سبتمبر 1962، هيأ الأجواء السياسية لانطلاقة جادة وواسعة باتجاه تحقيق أهداف الثورة في كافة مناحي الحياة.
سنوات عصيبة
في شمال اليمن، حينها، كان المشهد السياسي ملبدًا بغيوم الصراعات الداخلية ومتأثرًا بالاستقطابات الإقليمية والدولية ويحمل في طياته تبعات تنافس قوى الثورة اليمنية، السياسية والاجتماعية، على مواقع النفوذ فيما بينها، من جانب، والطرق المثلى للتعاطي مع فلول النظام الإمامي الكهنوتي الذي قامت ثورة 62 ضده، من جانب آخر.
وقفت القيادة المصرية بزعامة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلى جانب الثورة، في حربها العسكرية مع النظام الإمامي التي استمرت في عملياتها الواسعة إلى أوائل العام 1968، وانتهت فعلًا العام 1970، ما جعل الأمر معقدُا أمام القوى الثورية، وزاده تفاقمًا أن حركة القوميين العرب، ذات القوة التنظيمية والسياسية وقتها انخرطت في التيار الناصري، على المستوى العربي واليمني على حد سواء، فوفرت القاعدة السياسية والشعبية اليمنية للقوات المصرية، وبالمقابل لعب البعثيون دورًا بارزًا في تأسيس وقيادة "تنظيم الضباط الأحرار"، المفجِّر للشرارات الأولى للثورة اليمنية، فكان أن انسحب على المشهد السياسي اليمني الخلاف الناصري البعثي على المستوى القومي، عقب فشل الوحدة المصرية السورية العام 1961.
من نتائج الصراع البعثي الناصري، والنكسة العربية في الحرب مع إسرائيل سنة 1967، حدوث توافق إقليمي على تصفية الحرب اليمنية بالاتجاه نحو مصالحة مع بقايا النظام الإمامي أتاحت له التغلغل والعمل داخل مؤسسات الدولة، إلى أن تمكن من الظهور الجديد في المليشيا الحوثية التي تخوض اليوم حربًا ضد الشعب اليمني ومكتسبات ثورته ونظامه الجمهوري.
وتواصلت الانسدادات السياسية بين التيارين البعثي والناصري، وأسهم دخول التنظيم السياسي ذي الاتجاه الماركسي في جنوب اليمن، على خط المشهد في الشمال، في تعقيده أكثر، وانفجر في ذروته عبر عمليات انقلابات واغتيالات طالت رؤساء البلاد، وفي هذه الظروف تسلم علي عبدالله صالح رئاسة البلاد إثر انتخابه العام 1978 من مجلس الشعب التأسيسي (البرلمان).
فكرة ترى النور
منذ الوهلة الأولى لنجاح إطلاق ثورة 26 سبتمبر، أدركت القوى السياسية الثورية، استحالة المضي نحو أهداف الثورة في مجالاتها التنموية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية دون توفير أرضية من الاستقرار السياسي، فولدت سريعًا فكرة إنشاء إطار سياسي موحد يحمل على عاتقه تحقيق أهداف 26 سبتمبر؛ إلا أن الفكرة ظلت عقدين من الزمن الجمهوري حبيسة الأدراج ومفتقرة إلى تصور وبرنامج واضح المعالم يخرجها إلى واقع التنفيذ.
من هذا الإدراك السياسي ورغبة في تحويل الأهداف الثورية إلى وقائع على الأرض، وضع الرئيس الجديد- ذلك الوقت- نصب عينيه تسوية الأرضية السياسية كأولوية قصوى ورافعة ضرورية لولوج مرحلة البناء الفعلي لليمن في مختلف المجالات، فأخرج علي عبدالله صالح فكرة الإطار السياسي إلى النور، بتأسيس "المؤتمر الشعبي العام".
استفاد الرئيس صالح من أخطاء سياسية وقع فيها الرؤساء السابقون للجمهورية، وفي مقدمتها التوكؤ على قوى استحكمت عليها الصراعات، كاعتماد الرئيس عبدالله السلال على حركة القوميين العرب، والرئيس عبدالرحمن الإرياني على حزب البعث، والرئيس إبراهيم الحمدي على التنظيم الناصري، وافتقار الرئيس أحمد الغشمي لساند سياسي. وترجم الرئيس صالح استيعابه السياسي للمعضلة بأن اختار بناء تنظيم سياسي جديد، خالٍ من تبعات الماضي وتأثيرات المراكز الخارجية لتلك القوى، ويتمتع بخاصية يمنية دون التفلت من البُعدين العربي والإسلامي وحتى العالمي، وبذات الحين يقوم على مبدأ الشراكة وتخفيف وترشيد صراعات القوى القائمة، فكان تأسيس المؤتمر الشعبي العام، كتنظيم احتوى صراعات الأحزاب القومية والدينية، السائدة في المشهد حينئذ، بدليل نظري هو "الميثاق الوطني" عبّر عن صيغة توافقية بين تلك الأحزاب، من ناحية، وأضفى على توجهاتها النكهة النابعة من خصوصيات الثقافة اليمنية وطابعها في الوسطية والاعتدال، من ناحية ثانية.
مراحل في الطريق
مر المؤتمر الشعبي العام بثلاث مراحل أساسية منذ نشأته حتى اليوم، الأولى من أغسطس 1982 حتى مايو 1990، والثانية من مايو 1990 حتى سبتمبر 2014، والثالثة من سبتمبر 2014 حتى الآن.
اتسمت المرحلة الأولى بتمكن المؤتمر من أن يكون مظلة سياسية وشعبية جامعة للقوى السياسية والاجتماعية الفاعلة، وأن يوجه خلافاتها الماضية نحو الانشغال في تصفية بقايا العثرات السياسية مثل إنهاء مشكلة "الجبهة الوطنية الديمقراطية" ذات الاتجاه السياسي والعسكري، والموالية للحزب الاشتراكي اليمني في الجنوب، المتفاعل بقوة مع الصراع بين المعسكرَين الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وبتسويته للأرضية السياسية الداخلية استطاع المؤتمر أن يشرع في قيادة نهضة تنموية اعتمدت على الذات بشكل أساسي، وأن يحقق للبلاد علاقات متوازنة على المستويين الإقليمي والدولي.
وفي المرحلة الثانية، بعد قيادته مع الحزب الاشتراكي، وتحقيق أحد أهم أهداف الثورة اليمنية، 26 سبتمبر في الشمال و14 أكتوبر في الجنوب، والمتمثل في إعادة تحقيق الوحدة السياسية للشعب والأرض اليمنية؛ اتجهت القوى المنضوية تحت راية المؤتمر الشعبي العام إلى تأسيس تنظيماتها السياسية الخاصة، وأصبح المؤتمر أحدها، لكن محتفظًا بصيغته التوافقية وسمته الوسطية والأكثر تعبيرًا عن الشخصية اليمنية، التي تنطلق من نظرية يمنية للأبعاد القومية والإسلامية والعالمية، وليس من نظرية قومية أو إسلامية أو عالمية للبُعد اليمني.
وخلال هذه المرحلة، قاد المؤتمر الاتجاه التدريجي نحو الديمقراطية، فرعى مع الحزب الاشتراكي التعددية السياسية والإعلامية والمهنية والمدنية، كما أشرك القوى السياسية في إدارة الدولة، وقاد ثلاث عمليات انتخابية برلمانية، وعمليتي انتخابات رئاسية ومحلية، وعدد من الاستفتاءات الشعبية.
وقاد، بمنهجية ديمقراطية، عملية الخروج من أزمة العام 2011، وتمكن من امتصاص انهيار سياسي مدفوع من الخارج، كانت البلاد على وشك الوقوع فيه.
أما المرحلة الثالثة، فمثلت أخطرها على المؤتمر واليمن على السواء؛ إذ تمكن الحوثيون من استغلال فجوات إدارة البلاد بعد أزمة 2011، واستولوا على العاصمة صنعاء وأغلب المحافظات اليمنية، ليبدأوا في تهديد النظام الجمهوري وتنفيذ برنامج إعادة إنتاج النظام الإمامي المحدّث بأفكار وأساليب وأدوات سلطة الولي الفقيه في إيران.
إزاء تخلي القوى السياسية القائمة عن التعامل مع المشكلة الحوثية التي عملت على تجريف الدولة اليمنية كمؤسسات وقوانين وإحداث خروقات كبيرة في النسيج الاجتماعي والثقافي لليمنيين وهويتهم؛ رأى المؤتمر أن من الخطأ إخلاء الساحة لمليشيا الحوثي النهمة، وانفرد- بزعامة الرئيس السابق علي عبدالله صالح- بمحاولة كبح جماح الحركة الحوثية في التهام الجمهورية ومنجزاتها وتقاليدها التي أرستها على مدار عقود، وحقق المؤتمر نجاحًا كبيرًا مشكِّلًا حاجز صد أمام مخططات مليشيا الحوثي للتغلغل في الأوساط الشعبية وتغيير المناهج الدراسية، حتى دفع الزعيم صالح حياته ثمنًا لتلك المحاولة الوطنية.
مع استشهاد الزعيم صالح على يد المليشيا الحوثية، تعرض المؤتمر الشعبي لصدمة تنظيمية وسياسية، غير أن سنوات الحرب أثبتت للداخل اليمني والخارج الإقليمي والدولي، أن المؤتمر ما زال محتفظًا بزخمه الشعبي، وأن رجاله أقدر على التعاطي مع الظروف السياسية الراهنة، وترسخت النظرة إليه كتنظيم رائد يستطيع- بوسطيته واعتداله وديمقراطيته- لملمة المشهد اليمني المتناثر والمتنافر، وإعادة ضبط المعادلة السياسية في المستقبل كما ضبطها في الماضي.