ما أقسى الحرب التي تختزل الوطن في حضن المأساة من دون أن تنتج سنواتها الطويلة إلا حصاداً وافراً من أرقام الموت والفجيعة. فها هو العام الثامن من عمر الصراع الدائر في اليمن يغادر مثقلاً بحصاد قاسٍ، كان الأقسى منه أن يترك عداد مآسيه ماثلاً كالمقصلة، لتسجيل مزيد في روزنامة سنوات الجراح الشاهدة على فداحة الحال الذي كشفت جردته الماضية عن ارتفاع صادم يقابله تضاؤل الآمال في أن يشهد العام التاسع من عمر الحرب انفراجة وشيكة للحال الصعب الذي بلغ حداً غير مسبوق في تاريخ البلاد.
ومنذ الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران في عام 2014 وسنوات اليمن عجاف من الفرح مثقلة بالأسى، وتبدو معها مهمة وقف دوران سنوات القتل والجوع والتشريد عصية على الجهود الإقليمية والدولية للحل السياسي المستدام والشامل بعد تناسل أجندات الأزمة وتشعب قضاياها.
الموت لمئات الآلاف
وبلغة الأرقام التي لا تكذب، ظهر رصد السنوات الثقيلة تصاعد كل سنة عما قبلها في مؤشر ضحاياها بنتيجة طبيعية لاستمرار آلة الحرب التي تأتي على ما تبقى في البلد المنهك بمآسيه المركبة. ومع إسدال العام الماضي ستاره قال تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إن الحرب في اليمن قتلت بنهاية العام الماضي نحو 377 ألف شخص بشكل مباشر وغير مباشر منذ اندلاعها في سبتمبر (أيلول) 2014، ما يقرب من 60 في المئة منها (نحو 226200) غير مباشرة"، في حين أن الوفيات المباشرة هي تلك التي تسبب فيها القتال، وقدرت بنحو 40 في المئة من الحصيلة الإجمالية، بما يعني أن عددها 150800.
وجاءت الوفيات غير المباشرة بسبب "مشكلات مرتبطة بالنزاع مثل عدم الحصول على الغذاء والمياه والرعاية الصحية. وهذه الوفيات تطاول بشكل كبير الأطفال الصغار المعرضين بشكل خاص للنقص وسوء التغذية"، وفقاً للتقرير.
أطفال في فم المدفعية
ولعل أقسى ما خلفته آلة الحرب أن طاولت بنيرانها الحارقة الأطفال، في مؤشر فادح لم يسبق أن شهدته أرقام جولات الصراع الدامية على امتداد تاريخ البلاد، وفيما يتعلق بحال الأطفال ذكر التقرير أن كل تسع دقائق من عمر عام 2021 شهدت موت طفل يمني دون سن الخامسة بسبب النزاع.
النار تأتي على كل شيء
طاولت نيران العنف كل شيء، ووصلت إلى تدمير كلي وجزئي بهيكل البنية الاقتصادية والتنموية والمنشآت العامة والخاصة، وأدت في أفقر دول شبه الجزيرة العربية إلى تدمير البنية التحتية وانهيار الاقتصاد ووضع ملايين السكان على حافة المجاعة، وسط عجز دولي عن وقف جولات القتال على رغم المساعي الدبلوماسية المستمرة.
شبح الموت المليوني
ويذكر حلول كل عام جديد بأزمة اليمن، إذ إن أوجه التعقيد والتصعيد في ملفاتها تدفع الجهات الدولية المعنية إلى إطلاق التحذيرات المتواترة من مغبة الاستمرار في انتهاج العنف سبيلاً للحصول على المكاسب السياسية، الأمر الذي ألحق ضرراً فادح الكلفة بملايين المدنيين.
وحذر التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن النزاع على السلطة بين الحكومة والميليشيات الحوثية سيتسبب في وفاة 1.3 مليون شخص إذا أكمل عقداً، فضلاً عن تسببه في ارتفاع معدلات الفقر والجوع وتفاقم "أسوأ أزمة إنسانية في العالم". ولن تحدث الوفيات "بسبب القتال، ولكن بسبب الآثار الثانوية للنزاع على سبل العيش وأسعار المواد الغذائية وتدهور الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم"، متوقعاً أن ترتفع نسبة الوفيات بسبب العوامل الثانوية "إلى 75 في المئة بحلول عام 2030، إذا استمرت الحرب".
انهيار متواصل
ويشهد اليمن أسوأ أزمة إنسانية على مستوى العالم، وفق الأمم المتحدة. وتسبب في نزوح ملايين عن منازلهم وتدمير مئات المدارس وتعطيل النظام الصحي. ولهذا، توقع التقرير أن يبلغ عدد الأشخاص الذين يعانون سوء التغذية نحو 9.2 مليون بحلول عام 2030، فيما "سيرتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع إلى 22 مليوناً، أي 65 في المئة من السكان"، من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 30 مليون نسمة.
الحرب والاقتصاد
ونتيجة لارتباطهما الوثيق تسبب المشهد السياسي المشتعل في انهيار اقتصادي مريع في بلد فقير ومتعدد المشكلات التاريخية في هذا الجانب. ونتيجة لذلك، فقد تسبب الانقلاب الحوثي "في خسارة اليمن 126 مليار دولار أميركي من النمو الاقتصادي المحتمل"، والمخيف أن هذا "الوضع يستمر في الانهيار"، وهو ما ينذر بكارثة إنسانية قد لا تفلح النداءات الموسمية في إيقافها في خضم انشغال العالم بالأزمات السياسية والاقتصادية التي يشهدها أخيراً.
سلام وتعافٍ أو الموت
برامج التعافي والدعم الدولي قد تفيد في إنعاش البلد المنهك في حال توقفت الحرب التي أشعلتها الميليشيات الحوثية، وللوصول إلى ذلك يشترط أن يتم تحقيق السلام تزامناً مع شهر يناير (كانون الثاني) الحالي إلى جانب عملية تعافٍ شاملة، "قد يمكنا اليمنيين من وقف موجة زيادة الفقر في البلاد وعودة اليمن إلى مستوى الدخل المتوسط والقضاء على الفقر المدقع الذي يعانيه الآن 15.6 مليون شخص"، غير أن الجهود الدولية لم تفلح في إحداث خرق جوهري بجدار الأزمة مع استمرار القتال في مناطق متفرقة بين القوات التابعة للحكومة الشرعية والميليشيات الحوثية الموالية للنظام الإيراني.
واندلعت الحرب في اليمن عام 2014 عقب سيطرة الميليشيات الحوثية على العاصمة صنعاء، وتلاه في العام التالي تدخل تحالف عسكري بقيادة السعودية دعماً للحكومة الشرعية المعترف بها دولياً. وتتركز المعارك اليوم في محيط مدينة مأرب الاستراتيجية التي تشكل آخر معاقل الحكومة في شمال البلاد، وفي منطقة الحديدة بالغرب التي تضم ميناءً يعد بمثابة شريان حياة لملايين الأشخاص يقع تحت سيطرة الميليشيات الحوثية منذ سنوات ويمنحهم دخلاً ثابتاً يقدر بملايين الدولارات شهرياً.