يكثر الحديث الآن - وله أن يكثر- عن مواكب النازحين الذين يغادرون أوطانهم بحثاً عن مكان آمن لا يحل محل الوطن، وإنما يضمن للنازح البقاء على قيد الحياة . ويختلف الباحثون والكتاب حول توصيف هذا الحال من النزيف البشري وهل هو هجرة أم نزوح ، والذين ينظرون إليها بوصفها هجرة يتذكرون أو بالأحرى يذكرون المهاجرين العرب الأوائل الذين هجروا بلاد الشام خوفاً من تعسف الأتراك وضيق المجال بالكلمة الحرة ، والأمر في تلك الحالة يختلف لا من حيث عدد المهاجرين فحسب، وإنما من حيث النوعية والدور الذي أدّوه في خدمة الأمة العربية، سواء كانت هجرتهم إلى أرض عربية أو إلى خارج هذه الأرض.
أما النزوح الحالي فهو هروب جماعي وغالبية النازحين من النساء والأطفال ومن ناس ربما لم يتوفر لبعضهم سوى الحد الأدنى من التعليم وليس في أذهانهم سوى مشروع واحد هو النجاة من الحروب التي دمرت كل شيء وهددت السلم الاجتماعي بالانتماءات الطائفية والمذهبية المغلقة على أصحابها .
كان المهاجرون الأوائل يجدون قلوباً مفتوحة وترحيبا واسعاً، بما لا يقاس بالاستقبال المذل والمريع الذي يلقاه النازحون الآن والفارون بجلودهم من الموت المحقق على أيدي أبناء بلدهم، ومن الإخوة الأعداء الذين يصرون على الاستمرار في الحكم بالقوة، أو الذين يصرون على الاستيلاء على الحكم بالقوة دون حساب للضحايا وللجرائم التي يتم ارتكابها تحت مسميات كان يمكن تجنبها بالحوار والتغيير السلمي والتخلي عن التعصب للطائفة والاحتماء بالآخر الذي كان ينتظر هذه اللحظة ويعمل من أجلها باستخدام وسائل التفرقة وإطالة الحديث عن مظلومية بعض الفئات المهمشة، في حين كانت المظلومية والتهميش الطابع السائد واللاحق بجميع المواطنين تحت حكم أنظمة غير عادله ولا أمينة.
ما يحدث الآن من نزوح داخلي وخارجي في بعض الأقطار العربية ليس هجرة بالمفهوم المتعارف عليه، بل هروب جماعي وبحث عن أماكن مؤقتة تتوفر فيها الحماية من موت مؤكد ومحتوم، وهو نزوح كشف عورة الأنظمة الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث شرعت دول هذه الديمقراطيات الهشة واللاإنسانية في بناء الأسوار العالية، إضافة إلى الأسلاك الشائكة لمنع النازحين الجياع من الاقتراب - مجرد الاقتراب- من جنة الديمقراطية والإنارة. وكان في مقدور الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية أن تمنع حدوث النزوح من الأساس ومن خلال المواقف الدبلوماسية وعبر مجلس الأمن ومنظماته الدولية، لكنها بدلاً من ذلك أسهمت في إشعال نيران الصراع في المنطقة، ورأت مصلحتها في استمرار الحروب وتعدد الانقسامات. وما يزال بعضها إن لم تكن كلها تلعب بنار المنطقة سعيدة بما يتعرض له الأبرياء من إبادة ومن فرار جماعي من وجه الحريق.
إن النزوح نتيجة وليس سبباً، الحرب هي السبب، وقد يعترض كثير ممن لا يرون الحرب هي السبب، وإنما هي نتيجة أيضاً لشيء قبيح مستهجن اسمه الصراع السياسي الخالي من القيم والضوابط الوطنية، وإليه وحده إلى هذا الصراع المجرد من كل المعاني العقلانية والوحدانية ترجع كل الأسباب التي قادت الوطن العربي إلى هذه الحال، والمخيف أن يواصل قيادته إلى ما هو أسوأ مما هو كائن الآن.