قبل موته، أوصى الملك المعافر بن يعفر الحميري أبناءه وبني قومه قائلاً "لا تضجعوني في موتي يضجع ملككم، بل ادفنوني قائماً فلا يزال ملككم قائما"، تبادرت إلى ذهني هذه الوصية المضمخة بالعزة والأنفة والكبرياء، وأنا أقرأ وصية أقيال اليمن من قبائل حجور وتعهدهم بالقتال حتى الموت على شماريخ جبالهم الشامخة، دفاعا عن أنفسهم وأهلهم وموطن أجدادهم، ضد العصابات الهاشمية الدخيلة التي ما انفكت تقتل اليمنيين على مدى أكثر من ألف سنة حتى يومنا هذا.
في معركة حجور التي سيدونها التاريخ بشعور مختلط بين الشجاعة والاستبسال والفداء من جهة، وبين الجبن والخذلان والتفريط من جهة أخرى، كان أقيال اليمن وأحفاد التبابعة الميامين يرسمون برصاص بنادقهم آخر النقوش السبئية على صخور شمّاخ وطلاّن الشامخين، كان الزعكري وفلات والعمري ومن معهم من الأبطال جبالاً على جبال، أداخوا الحصى من شدة الركض على قمم حجور المجد وسفوحها، وهم يحاولون فرملة مشروع الولاية الهاشمية الذي غزاهم إلى بلادهم، لإركاعهم وإرغامهم على تقديم النذور للقادمين من مجاهل التاريخ. وفي سبيل ذلك ولأجله، كانت الشهادة في انتظارهم آخذة أرواحهم الندية إلى رحاب الله، وهكذا فاضت أرواح أقيالنا أبي مسلم الزعكري وعلى فلات الحجوري ومحمد حمود العمري وغيرهم، رحمهم الله جميعا، في لحظة تجلٍّ بديعة لكبرياء حجور وعنفوانها السبتمبري الحميري، ولا غرابة في الأمر، فأقيال اليمن عبر التاريخ لا يموتون إلا كما تموت الشجر، واقفين ثابتين شامخين، تناطح هاماتهم السُحب في الفضاءات الرحيبة من أجل حقهم في العيش بحرية وعزة وكرامة.
لقد قاتلت حجور بكبرياء وعنفوان الأمة السبئية جمعاء، قاتلت بصمود لا يُضاهى أمام عصابات هاشمية مجرمة اتخذت القتل والغدر وسفك الدماء شرعة لها ومنهاجا، منذ أن توغلت في أرض اليمن نهاية القرن الثالث الهجري، صمدت حجور رغم الحصار الخانق والجائر عليها لقرابة الشهرين ولم يغثها أحد إلا لِماما، وَثبتْ حجور بإرثها الحميري للذود عن عرينها وكرامتها كي لا يدنسها الأغراب أو يمتهنها مشردو الرس ونفايات طبرستان.
لم تفعل قبائل حجور الأصيلة إلا ما وجدت عليه آباءها منذ أن وطأ جدها قحطان بن هود أرض اليمن، من النخوة والشهامة، من الإباء والكبرياء، من التضحية والفداء؛ لكن ورغم ذلك كله، فإن الحزن والأسى على مآل معركة حجور باقٍ يفتت الأكباد، وستبقى في الحلق ألف ألف مُبكية على حدث من خذلان وتفريط. ماذا سيقول التاريخ عن معركة حجور وفي اليمن جيش جمهوري عرمرم يطوقها من كل جانب ولم يحرك ساكنا لنُصرة الأبطال فيها؟ ماذا فعلت قبائل سبئية أصيلة انتصرت لجمهوريتها السبتمبرية ودولتها الاتحادية حتى تُترك هكذا لقمة سائغة لمجرمي العصر الذين حشدوا لها ألف حشد لكسر شوكتها ونزع هيبتها بينما مئات الآلاف من الجنود والضباط يعتلفون القات ويلتحمون الكباش خلال سنوات الجمر الأربع وصولاً إلى لحظة تحجر الدمع في المآقي!! والأقسى من ذلك والأكثر وجعاً، أن القبائل المحاذية والمشاطئة لقبائل حجور وقفت مكتوفة الأيدي لتشاهد من بعيد ما يجري لأبناء عمومتها من إعدامات جماعية وهدم وتفجير لمساكنهم حتى أن النسوة لم يسلمن من القتل ومن المسافة صفر!!
لاجدال أبداً أن هناك تعمّد لسحق الشخصية اليمنية وهزيمة المجتمع اليمني من الداخل، وذلك من خلال السماح للمليشيات الهاشمية الدخيلة بالانتصار في أغلب معاركها مع السكان الأصليين، وإلا ما التفسير لما حدث ويحدث وربما سيحدث مستقبلا؟ فليست حجور وحدها من ألقي بها في غياهب الجب وانثنى المسئولين عنها يشاهدون مآلها عبر شاشة التلفاز، فقبلها تعز التي تعرضت لنفس الخذلان والتناسي ولولا واقع تعز الجغرافي لكانت إلى اليوم مكسورة أسيرة للاحتلال الحوثي الهاشمي.
إن على اليمنيين جميعا أخذ العبر والدروس مما حدث في حجور، وإعادة ضبط بوصلة الصراع من خلال إعادة تعريف العدو التاريخي لليمن، بوضوح وجلاء تام، خصوصا بعدما شاهدنا قيام الأسر الهاشمية المنغرسة بين قبائل حجور منذ مئات السنين بالانقلاب على أبنائها والالتفاف حول مشروع الولاية الهاشمية الغازي، هذه المستوطنات الهاشمية التي قال عنها أحمد الكحلاني بأنها "هجرة" بان وظهر قُبحها حينما هجرت كل الأعراف وتحللت من كل العهود والمواثيق، وحولت بيوتها وقراها إلى منصات للصواريخ ومرابض للمدافع ومتارس للقناصة، لقتل أبناء حجور وهدم منازلهم فوق رؤوسهم وهم أبناء الأرض وسكانها الأصليين!!
إن على الحكومة الشرعية وفي ظل هذا الغليان الشعبي العارم واجب وطني مقدس، وهو اتخاذ معركة حجور منطلقا للتحرير واستعادة الدولة وهزيمة المليشيات، فالحرب قطعا لا تحتاج إلى إذن وطبطبة، بل إلى مجازفة ومغامرة وانطلاقة، اجعلوا حجور فتيلة المعركة الأخيرة، الشعب معكم ولن يخذلكم، وأربع سنوات من المعاناة جعلت اليمني يتطلع بشغف ليوم الخلاص من هذه الشرذمة المتوردة المجرمة.
حجور سقطت واقفة، وستبقى واقفة منتظرة المعركة السبئية الأخيرة، لتُزهر بعدها بالنصر وتُورِق، وتمتد أفياءها حاملة سفر نضالها إلى كل أرجاء اليمن.