كما لو أني من طلبة أرسطو
كنتُ أقرأ كتبًا، والآن أنا أستمع
أصابني الأرق قبل ليلتين، فاضطررت إلى الاستماع لكتاب صوتي أملأ به الفراغ الزمني الناجم عن السهر، وأعزز معرفتي في الوقت ذاته كما كنت أفعل في زمن الكتاب الورقي. ومع انسياب الصوت في العتمة، تسلّل إلى ذهني خاطر بسيط: كيف تغيّرت علاقتنا بالمعرفة؟
في خضم الطفرة التكنولوجية، تراجعت صفحات الورق وبدائلها من الصفحات الإلكترونية لصالح موجات الصوت. لم تعد المعرفة تنتظر قارئًا يتصفّحها، بل مستمعًا ينقر زر التشغيل.
المفارقة أن ما حسبناه قفزة رقمية نحو المستقبل، كان في جوهره عودة بدائية إلى زمن الكلمة المسموعة، حين كانت الحكايات تُروى حول النار، وتُلقَّن الحكم وتنتقل المعرفة من فم إلى أذن.
لقد ظلّت المعرفة متناقلة عبر التلقين الشفهي لمئات الآلاف من السنين. كانت المجتمعات الأولى تحفظ التاريخ، والدين، والحكمة، عبر الرواة والحكّائين والناقلين الشفويين.
وحينما ظنّ البعض أن الكتابة والقراءة قد حلّتا محلها إلى الأبد، عاد التلقين من باب التكنولوجيا… لكن على هيئة بودكاست ومحاضرات مسجلة ومقاطع قصيرة. عادت الأذن لتسبق العين، والصوت ليتغلغل في الذهن دون وسيط مرئي.
ولعل المفارقة الأعمق أن هذا التحول جاء بإرادتنا. اخترنا الراحة على الجهد، والانسياب على التأمل. لم نعد نُقلّب الصفحات، بل نستسلم لتدفق المحتوى وكأنه ينساب في مجرى ثابت لا ينتظر توقفًا. وفي هذا السيل المتواصل، قد نغفل عن الفرق بين “الاستماع” و”الاستيعاب”.
لقد أعادتنا التقنية إلى نقطة البدء، لكن بصوت مصقول وواجهة أنيقة. لم يتغير جوهر السعي وراء الفهم، بل تبدّلت طريقة التلقّي. كأن المعرفة ذاتها عادت لتطرق الأبواب ذاتها.
ويبقى السؤال حاضرًا، هل نرتقي بالمعرفة… أم نُعيد تدويرها في صورة أكثر كسلا، كما فعلت بنا نماذج الذكاء الاصطناعي حين أعادت تدوير معرفتنا المتراكمة لآلاف السنين. وهل نملك حقًا الوعي الكافي لتمييز الفارق بين الوسيلة والغاية؟
بالمناسبة، أنا لا أنتقد الذكاء الاصطناعي، فأنا أستخدمه أيضًا، وألجأ إليه للمساعدة وتحسين العمل والإنتاجية دون إفراط كما فعلت حين طلبت من شات جي بي تي مراجعة هذا النص وتدقيقه لغويًا، لكنني أخشى أن يعتمد عليه البشر اعتمادًا كليًا، فيتوقفوا عن انتاج المعرفة والابتكار، استنادًا إلى افتراض أن نماذج الذكاء الاصطناعي، ستبتكر بالنيابة عنهم.