لم تعد موهبة كتابة الشعر في الخليج تمنح صاحبها تلك الهالة والوجاهة المزعومة التي كان يحصل عليها الشاعر قبل عقدين من الزمن وأكثر، حينما ساهمت المجلات والبرامج الشعبية في صناعة نجوم للقصيدة المحكية، بل لم تتورع في وضعهم بمقام واحد مع شعراء لهم رمزية عند المتلقي الذي يدين لهم بتشكيل ملامح ذائقته ووعيه لأغراض تسويقية، وتقديم هؤلاء في قوالب ليس لها علاقة بالموهبة الفطرية أو المكتسبة، بغض النظر إن كان ما يكتبونه هو بالفعل شعر كما يوصف أو منتجات مشابهة له. ورغم الشغب اللذيذ الذي كانت تصنعه الصحافة الشعبية آنذاك إلا أن تلك الموجة توارت، وضاع عدد من الشعراء الذين كانت تسلط عليهم الأضواء الشبقة وسط الزحام، ولم يصمد سوى القلة في عصر التواصل الاجتماعي الذي قرب المسافة بين الشاعر والمتلقي، بل كان الفضل لهذه الوسائل في بروز عدد من الشعراء بكيفية وقوالب جديدة تتسق مع أطر الوسيط الجديد.
في تلك الفترة الذهبية كان أحد محاور الإثارة في صناعة التقارير والحوارات الصحافية التساؤلات الملحة التي تدور في فلك "بيع وشراء" القصائد بوصفه حدث غير مرئي يدور في كواليس الوسط الشعبي، وكانت هذه التساؤلات إما تكون تصريحاً أو تلميحاً حتى مل الجمهور منها، ولم تعد تثير فضوله، وتعتبر الفترة الحالية ليست فترة تنافسية مشابهة لما مضى، لا سيما وأن الرديء يزاحم الجيد دون حرج في نفس الوعاء وللمتلقي اختيار ما يناسبه.
الجديد أن مظاهر تسليع الشعر اليوم اختلفت عن السابق، بل أصبح هناك منافذ علنية للبيع بزبائن مؤقتة في الأغلب لا يطمحون لشهرة واسعة تتجاوز محيطهم بحسب تأكيدات جزء من القائمين عليها.
وعلى موقع "تويتر" تحديداً الذي اتسع صدره للشعراء بتخطي حاجز الـ140 حرفاً، يبرز عدد من الحسابات التي تروج للشعر على طريقة بيع العسل وأقراص التخسيس وبعض أعشاب علاج العقم.
يختبئ خلفها عدد من ناظمي الأبيات الكلاسيكية في بعض أغراض الشعر.
تواصلت "العربية.نت" مع عدد من أصحاب هذه الحسابات التي أكد ثلة من القائمين عليها أن الطلب عليهم لا يزال مرتفعاً نافين تهمة اختفاء وهج القصيدة والاحتفاء بصفة الشاعرية، فيما رأى البعض أن هناك فترات معينة في السنة يمرون فيها بمرحلة كساد طبيعية على حد وصفهم.
وذكر آخر أنه تمكن في الشهر الحالي من بيع 6 قصائد أغلبها كانت صالحة للمناسبات على حد قوله.
واتفقوا جميعاً على السرية التامة التي تمثل الجانب الأخلاقي الأهم بين المشتري والبائع.
يقول بائع: "الثقة بإذن الله موجودة، وبمجرد استلام المبلغ وتسلم الشاعر للقصيدة.. خلاص مالي علاقة فيها وتصبح ملكه".
بائع قدم لنا عرضا مغريا لقصيدة مكونة من 10 أبيات يتم أكسدتها إلى "شيلة" بمبلغ 3 آلاف ريال فقط، وعندما طلبنا منه قصيدة قابلة للغناء بصوت أحد الفنانين في البداية امتعض لكونه يرى بأن الغناء محرم إلا أنه عاد في كلامه، واشترط بأن تكون وطنية وليست عن الحب لما فيه من تأجيج للمشاعر، بحسب ما قاله.
فتوى أباحت له بيع الشعر
تواصلنا مع بائع قصائد عبر الرسائل الخاصة، فذكر أن هذه المهنة غير مربحة واستدرك: "لكنها تسد الحاجة"، ولفت إلى أن السوق في وسائل التواصل يخضع لاعتبارات عدة منها "عدد مرات التغريد والتفاعل (الريتويتات)، وهو يبيع في الشهر ما بين 3 إلى 4 قصائد.
وأوضح أن سعر القصيدة يتراوح ما بين 600 ريال إلى 1000 ريال ويخضع لاعتبارات أخرى منها شخصية طالب القصيدة.
وقال: "عمري 48 عاماً وموهبتي الشعرية بدأت وأنا في سن العاشرة"، وزاد في حديثه: "لا أكتب قصائد الهجاء أو الغناء، وزبائني شخصيات لها حضور إعلامي في المشهد الشعري وبدأت البيع في تويتر منذ عام ونصف".
وشدد على أنه سبق أن استفتى شيخاً للتحقق من مشروعية ما يقوم به، فأكد له أن الأمر مباح بشرط ألا تحتوي قصائده على إثارة النعرات والفتن والكراهية، وأكثر ما يطلب منه قصائد الغزل والأفراح.
وعن عدم شعوره بالحرقة لبيع مشاعره قال: "موهبتي منذ أكثر من 30 عاماً لم تقدم لي شيئا، سوى أنها رفعتني عند الرجال".
وبين بائع القصائد أنه يرفض الظهور أو المشاركة بالاحتفالات.
وصنف الشعراء في آخر حديثه إلى شاعر "بيطار" وآخر "فحل" ومن بعده تأتي مرتبة سمّاها "شويعر" وأقل الفئات إمكانية "القصّاد".
شاعر وقت الطفرة
آخر وصف نفسه لـ"العربية.نت" بأنه شاعر "وقت الطفرة"، وقال: "دخلي الشهري يتراوح ما بين 2000 إلى 2500 ريال شهرياً، وتسعيرتي ثابتة القصيدة بـ500 ريال".
واشتكى من أنهم قد يقعون ضحية لـ"نصابين" على حد وصفه كونهم يأخذون منهم القصائد ثم يطلقون سيقانهم للريح دون وجود جهة تحميهم، وتكرر الأمر معه أكثر من مرة، وتابع: "تحسباً لمثل هؤلاء صرت أعطيهم بيتين فقط، وإذا عجبته الله لا يهينه يودع المبلغ وأرسل له القصيدة كاملة، كإجراء احترازي قبل أن يلوذ بالفرار".
أبو فيصل: بيت الشعر بـ50 ريالاً
بائع الأبيات الثالث طلب منا مناداته بـ"أبو فيصل" وكان له ما أراد، ذكر لنا أن مردوده الشهري يتراوح بين 5 و6 آلاف ريال شهرياً، ورغم ذلك وصف هذه المهنة بأنها "ليست مربحة"، وقال: "تقدر تعتبرها شغلا إضافيا، أكثر شيء يطلب مني قصائد مدح وزفّات"، وأضاف: "كل 3 أو 4 أيام أبيع قصيدة الدنيا حظوظ، وبعض الناس يسحبون عليك وما يدفعون أو بالأحرى ما يلتزمون بالدفع فصرت أتعامل بكتابة مطلع القصيدة بيتين إذا أعجبته يحول المبلغ كامل، وأكمل له قصيدته وأرسلها له".
وعن أسعار القصائد أوضح: "أما أسعار القصايد كنت أطلب غالي، ومحد يشتري لكن نزلت وصار لي زباين أبيع البيت بما يقارب 50 ريالاً، وحسب طلب الزبون أما التسعيرة ما هي ثابتة لكل شاعر سعره الخاص، وأسلوبه الخاص وزباينه الخاصين".
وشدد على أن الثقة بين البائع والمشتري في هذا السوق هشة ومهزوزة، نظراً لأن كل طرف يريد "ضمان حقه" على حد وصفه، وهذا الأمر وفقاً لأبو فيصل تسبب في خسارة زبائن كثر بالنسبة له.
الدخلاء على الشعر
واستطرد في حديثه: "لو فيه وارد ثان ما أشتغل في البيع ممكن أهتم بنفسي لأن بيع القصايد على حساب نفسي وشعري ووقتي، وأكثر شي أضرنا فيه حسابات نصابين وساحبين على الكثير".
أبو فيصل الذي بدا متذمراً من المهنة ذكر لنا بأنه أمضى عامه الأول فيها، ويدير 3 حسابات تقدم ما لذ وطاب من الشعر، وطلب منا في ختام حديثه التنويه عن وجود من وصفهم بـ"المستشعرين" من الدخلاء الذين اقتحموا السوق و كسروا أدبيات المهنة مثلما هي أشعارهم المكسرة بحسب إفادته.