تعكس الزيارة التي أداها وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو إلى ليبيا قيادة روما لدور أوروبي متقدم في محاولة لوأد الخلافات بين الأطراف المتنازعة مستغلة في ذلك دورها التاريخي وقوة حضورها الاقتصادي في البلاد.
ورجحت أوساط ليبية لـ”العرب” أن تكون السلطات الإيطالية بصدد الإعداد لتنظيم “قمة” بين الفاعلين السياسيين في ليبيا قبل موفى الشهر الحالي، في وقت ترى فيه العواصم الغربية أن لقاء بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة والقائد العام للجيش المشير خليفة حفتر بات أمرا ملحا لحلحلة الأوضاع، كما أن أي تأخير عن الانتهاء من أزمة القاعدة الدستورية قبل الأول من سبتمبر سيؤدي إلى تأجيل الاستحقاق الانتخابي إلى أجل غير مسمى.
وأضافت تلك الأوساط أن دول الاتحاد الأوروبي الفاعلة في الملف الليبي -بما في ذلك ألمانيا وفرنسا- تأخرت خطوات إلى الوراء لتفسح المجال أمام إيطاليا التي تحظى بإسناد أميركي وأممي في سعيها للقيام بدور رئيسي في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين وكذلك بين القوى الإقليمية المتداخلة في الأزمة.
وكان لافتا منذ فترة الاهتمام الإيطالي المتزايد بليبيا والذي كرسته زيارات وتحركات مكثفة لمسؤولين إيطاليين؛ حيث نقل السفير الإيطالي لدى ليبيا، جوزيبي بوتشينو غريمالدي، الخميس الماضي دعوة من رئيس وزراء بلاده ماريو دراغي إلى رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة لزيارة روما التي كانت في تلك الأثناء تحتضن اجتماعا للجنة البرلمانية المكلفة من قبل مجلس النواب بإعداد القانون الانتخابي ورئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عماد السايح بتنسيق مباشر من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. ويرى المراقبون أن إيطاليا تقود اليوم الجهود الأوروبية بدعم أميركي، وضمن سياقات إقليمية ترشحها لهذا الدور، لكن ضيق الوقت -ولاسيما المتعلق بإيجاد المخرجات القانونية والدستورية لتنظيم الانتخابات المقررة في الرابع والعشرين من ديسمبر- يضغط بقوة على روما ويجعلها تعمل على اختصار المسافات.
Thumbnail
وفي أوائل يوليو الماضي وصل القنصل الإيطالي الجديد في بنغازي كارلو باتوري إلى عاصمة الإقليم الشرقي، والإثنين وصل دي مايو إلى المدينة حيث أشرف على افتتاح القنصلية، وصادف أن اجتمع هناك مع وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش التي كانت في زيارة إلى ديوان الوزارة في بنغازي.
لكن المقابلة الأهم لدي مايو كانت مع قائد الجيش المشير خليفة حفتر، حيث بحثا آخر المستجدات السياسية المتعلقة بالملف الليبي خاصة على الصعيد الدولي وفق المكتب الإعلامي للقيادة العامة.
وفي الثامن من يوليو الماضي كتب المحلل السياسي لورينزو كريمونيسي في صحيفة “كورييرا دي لا سيرا” الإيطالية أن “الواضح أن القنصلية الإيطالية في بنغازي لن تكون قادرة على حصر نفسها في المهام الإدارية، تاركة السفارة في طرابلس كمحاور سياسي للحكومة، لكنها ستنخرط باستمرار في الوساطة مع جهاز حفتر”، وهو ما يعني أن دورا إيطاليا يتم حاليا إطلاقه للوساطة بين القوى المتنازعة في ليبيا، ولاسيما بين حكومة الوحدة الوطنية -التي تبدو أقرب إلى وجهة نظر الميليشيات وجماعات الإسلام السياسي والحليف التركي من مجلس النواب في طبرق- وقيادة الجيش في ضاحية الرجمة.
وعادت القنصلية الإيطالية للعمل في بنغازي ووفر لها الجيش حماية بالتنسيق مع وزارة الداخلية. وبدا وضع الإيطاليين سابقا في المنطقة الشرقية أصعب من وضعهم في طرابلس؛ ففي 17 فبراير 2006 تمت مهاجمة القنصلية واقتحامها وحرق جزء منها من قبل محتجين على وزير الإصلاحات الإيطالي آنذاك كالدارولي بسبب ارتدائه قميصا يحمل الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي محمد، وأدى التدخل الأمني لمواجهة الحادثة إلى سقوط 11 قتيلا وعشرات الجرحى، وقام النظام آنذاك بإقالة القيادات الأمنية في المدينة وإعفاء وزير الأمن العام نصر مبروك، وفي 2011 تم استدعاء ذلك التاريخ لتحويله إلى موعد لإطلاق انتفاضة ضد النظام، وقبل ثماني سنوات اضطر القنصل السابق غويدو دي سانكتيس إلى مغادرة بنغازي تحت زخات الرصاص من مدفع رشاش تحركه آلة الإرهاب.
وعندما انقسمت ليبيا في صيف 2014 بعد انقلاب الإخوان بواسطة “فجر ليبيا” على نتائج الانتخابات كانت إيطاليا قد اختارت الاصطفاف إلى جانب القوى المسيطرة على غرب البلاد، فمصالحها مع إقليم طرابلس تبدو أقوى من الناحية الاقتصادية، ولاسيما في ما يتعلق بأنبوب نقل الغاز الذي يمنح الضوء والدفء لنصف الأراضي الإيطالية، وبتأثيرات شركة “إيني” في القرار السياسي، مع أهمية الوضع الأمني المتصل بظاهرة الاتجار بالبشر وموجات الهجرة السرية من السواحل الشمالية الغربية الليبية إلى الضفة الشمالية للمتوسط، والذي دفع بروما إلى عقد صفقات مع ميليشيات خارجة عن القانون حظيت لاحقا بغطاء سياسي من حكومة فايز السراج، إضافة إلى توتر علاقاتها في مناسبات عدة مع جارتها فرنسا في ظل تناقض المواقف بينهما حول ليبيا.
واليوم أصبح ذلك جزءا من الماضي، فالإيطاليون أدركوا أن لا مجال لاستمرار توتر العلاقة مع برقة، وشجعتهم جهود الحل على ذلك، وربما أعادوا قراءة التاريخ جيدا، وحاولوا التعامل مع مفرداته، وخاصة في ما يتصل برمزية برقة في مواجهة سنوات احتلالهم لليبيا، لذلك كان لا بد من إعادة جسور التواصل مع حفتر في ديسمبر الماضي.
إيطاليا بصدد الإعداد لتنظيم قمة بين فرقاء ليبيا والعواصم الغربية تعتبر أن إبرام لقاء بين الدبيبة وحفتر أمر ملحّ
وأدى رئيس الوزراء الإيطالي السابق جوزيبي كونتي زيارة إلى الرجمة ليحصل على إذن قيادة الجيش بالإفراج عن مواطنيه من الصيادين المحتجزين بعد ثلاثة أشهر من احتجازهم نتيجة دخولهم المياه الإقليمية الليبية.
والإثنين تطرق دي مايو في برقة إلى الكثير من الملفات ذات الاهتمام المشترك سواء مع المشير حفتر أو مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وذلك في إطار زيارة بدأها من طرابلس حيث اجتمع مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ونائبيه موسى الكوني وعبدالله اللافي ورئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة ورئيس مجلس الدولة الاستشاري خالد المشري.
ووفق الخارجية الإيطالية فإن زيارة دي مايو جاءت في إطار “مواصلة الحوار” مع الأطراف الليبية حول “عملية الاستقرار والانتقال المؤسسي التي تقودها الأمم المتحدة، والتي تدعمها إيطاليا بعزم”، فضلا عن “توسيع نطاق” الشراكة الثنائية بين البلدين وتعزيزها.
وعلى صعيد آخر كان لافتا أن وزيرة الخارجية الليبية استقبلت نظيرها الإيطالي صباحا بديوان مجلس الوزراء في طرابلس وانتقلت معه على نفس الرحلة الجوية إلى بنغازي.
وهناك افترقا لتذهب هي إلى ديوان الوزارة في المدينة ويتجه هو إلى الاجتماع بحفتر، قبل أن يلتقيا مرة ثانية حيث “تم استعراض مسيرة العلاقات بين البلدين الصديقين وآفاق التعاون المشترك في مختلف المجالات، وخاصة ما يتعلق بتسهيل حصول المواطنين الليبيين الراغبين في السفر إلى ايطاليا على التأشيرات من القنصلية الإيطالية بمدينة بنغازي، حيث وعد الجانب الإيطالي في هذا الخصوص بأنه سيشرع في ذلك خلال الأيام القادمة، كما تم التطرق إلى القضايا ذات الاهتمام المشترك”، وفقا لما نشرته الخارجية الليبية.
وقبيل مغادرتها مطار بنينا الدولي بمدينة بنغازي التقت الوزيرة المنقوش في المطار مدير مكتب حفتر وعضو اللجنة العسكرية (5+5) عن قيادة الجيش اللواء خيري التميمي، حيث استعرضا سير عمل اللجنة وما توصلت إليه من نتائج في صالح الوطن والمواطن، ومنها تثبيت وقف إطلاق النار وفتح الطريق الرابط بين مصراتة وسرت وفق البيان الرسمي.
فيما رجحت مصادر لـ”العرب” أن يكون التميمي نقل إلى الوزيرة رسالة من حفتر حول المستجدات ونتائج الاتصالات الخارجية التي تجريها قيادة الجيش، لاسيما بعد الزيارة التي أداها الوفد العسكري إلى موسكو الأسبوع الماضي والذي قاده التميمي.
وأوضحت المصادر أن هذا اللقاء وإن كان على عجل فإنه الأول من نوعه الذي جمع بين وزيرة الخارجية وأحد الوجوه القيادية البارزة في المؤسسة العسكرية بقيادة المشير خليفة حفتر، وهو ما يشير إلى أنه يحظى بغطاء سياسي ودبلوماسي ويفتح المجال أمام مبادرات أخرى قد تصل إلى اجتماع رسمي بين قيادة الجيش ورئاسة الحكومة في روما التي تعمل جاهدة من أجل ذلك بدعم أميركي وأوروبي.