خلال عصر الجمهورية الذي بدأ في العام 1970م بعودة الفريق الإمامي إلى النظام الجمهوري الجديد واعترافهم به، ومثّل نهاية سعيدة للحرب التي وقعت بين اليمنيين والهاشميين على مدى ثمان سنوات عجاف، في ذلك العصر الممتد ما بين 1970 إلى 2014م كانت التجارة ودكاكين الصرافة تنسحب من قبضة الجمهورية إلى يد الهاشميين المحترفين، الذين لم يكونوا على عهد سابق بالتعاملات المصرفية الرأسمالية، لكنهم تعلموا جيدًا، وقرروا السيطرة على المال الجمهوري، والتحكم في تدفقه، فأنشأوا علاقات محرمة لتجفيف موارد الجمهورية مع القوى التنفيذية المهيمنة على النظام الجديد.
وتولى “محمد أحمد الجنيد”، الذي كان يتنقل من وزارة المالية إلى محافظية البنك المركزي ثم الخدمة المدنية، توطين الهاشميين في الوظائف المالية الرئيسية لأغلب مؤسسات الدولة، ومثله توغل “صالح شعبان” في تقاسم الوحدات الحسابية والإدارت العامة المالية الحكومية، واحتكارها في جماعته وأبناء محافظته، وكان هو الثابت الذي لا يتغير في وزارة المالية على مدى 33 سنة.
ومع اجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء وإعلانهم الانفراد بالقرار الرئاسي والحكومي، تولى “شعبان” مقاليد وزارة المالية في حكومة التمرد، وتولى الهاشميون خلال عقود تحسين مداخيل عناصرهم من الضباط والمسؤولين، ومصاهرة عائلة الرئيس وأقربائه، وتحوّل الوزير إلى سمسار يبيع عقود العمل إلى التجار المترفين.
انغمس الجميع في الفساد، وتكاثرت أملاكهم المحرمة باسم التجارة غير المرئية، وتولت البنوك ضمان تدفق “التمويل” إلى التنظيم الهاشمي للاعتناء بأفراده، ومساهمته في تمويل تجارتهم الصغيرة والكبيرة، حتى ينمو رأس المال، ويتوزع داخل الأسر الهاشمية إلى أقصى ما يمكنه، ذلك بما يضمن ربط الولاء الوظيفي والأسري والعقدي بتنظيم يُعد العُدة للانقضاض على الجمهورية من الداخل وبأموال اليمنيين!
لقد أثبت الهاشميون أن المال ليس تجارة رابحة وحسب، بل سلاحٌ جديدٌ يمكنه تمويل الحروب، وحشد المقاتلين بالأجرة، بما يُحدث انقلابًا شاملًا في مفهوم إدارة حروب العصابات التي برع الهاشميون في استدامتها لوقت طويل، عبر المال المسترجع من أرباح التجارة والصرافة وأعمال التهريب وتجارة المخدرات والسلاح منذ أول طلقة حوثية في سماء صعدة عام 2004م.
إن انتكاسة الجمهورية في 2014م، وعجزها عن إنجاز الحياة الملائمة، كان سببًا في ارتفاع صوت الإماميين الجدد، والعودة من بوابة التصحيح المزعوم، ويمكن تفسير ذلك بنتائج الانقلاب العسكري على الرئيس عبدالرحمن الإرياني في 1974م وتسليم السلطة للرئيس المقدم ابراهيم الحمدي تحت مبرر أولوية تصحيح الثورة، ولو على حساب الحضارة والتمدين، وهو ما أدى إلى تراجع دور المثقف والمفكر وبقائه رهينة في يد سلطة عسكرية تعاقبت على الرئاسة بعد مقتل الحمدي “1977م”، وتفجير الغشمي “1978م”، ثم صعود علي عبدالله صالح لرئاسة اليمن الشمالي – حينذاك – بردائه العسكري الذي تخلى عنه بعد عشر سنوات من رئاسته الأولى.
وبهذا يمكن الجزم أن حركة التصحيح هي التي دفعت بالعسكر إلى صدارة القيادة العامة لليمن، وما ترتب على ذلك من ضياع فرصة البلاد في العصر الرأسمالي – الصناعي، وانتكاسته على أمل توطين مفاهيم الحرية، والشورى، وإعادة الشرع الجماعي إلى اليمنيين أنفسهم.
وبقيام حركة التصحيح “1974م” فُتحت مصارع بوابات صنعاء السبع لعودة مختلف القيادات الإمامية الأرستقراطية التي حاربها اليمنيون في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م. استعاد الإقطاعيون شأنهم، وإرثهم، وممتلكاتهم مجددًا تحت حماية عسكر الجمهورية! وفشل المثقفون في إقناع القيادة العسكرية بإصدار قوانين تُجرم السُلالية العنصرية، والدعوة المبطنة أو الظاهرة للإمامة أو الترويج لها.