في مثل هذا الفجر، قبل ست سنوات كنت في السجن كسيرًا، أسيرا، وكانوا يضحكون ملء اشداقهم، ألوذ بارتعاش خفي إلى من حسبتهم اصدقاء، أحاول العثور على جهاز هاتف، أناديهم، ولم يلتفتوا، مروا من أمامي كأنهم لا يعرفون ملامحي !
مر عيد الفالنتاين، ومضت ذكرى زواجي، ومرت الدقائق باردة، وعقارب الساعة مُحمّلة بأثقال وأوزان، وصوت واحد كاذب ينال منيّ في قنوات الميليشيا المفتوحة، وأنا على قعدتي مكبل بقيود الزمان والمكان، أتقلب يمنة ويسرة وفي عينيّ دمع حبيس، وروع يقبض أحشائي، واختناق يغص عنقي، وهدوء يُعمّق الوحشة
كُنت أقف على ناصية منزلي، أداعب سيارتي الخضراء، مبتسم ليوم جديد، ورأيتهم مقبلين، ولم أنتبه، كانوا أمامي، يتسربون من أربعة أزقة إلى ضفاف الشارع العام، من وراء منزلي، وأمامه، مثل فئران قررت النيل من أسد هصور، أحاطوا بي، وصوبوا الرشاشات إلى وجهي، كُنت حاسر الخصر والرأس، حافيًا، أدفئ قدماي بشمس المدينة السمراء، وألقت بي الأيادي الآثمة في الجب، وجاءت سيارة وأطقم وأغلقت البئر, وبقي الفتى بضعة أشهر.
وجاء يوم هرولت فيه إلى مسجد السجن، احتضن المصحف في وجهي، وأبكي، محروقًا على الخيانات القاسية، انبجست أدمعي على ورق القرآن حتى بللته، وجُعِلت أرتعش، وقد استبد بي همّ كبير، وغمّ عظيم، وجائني رجل عجوز يمشي الهوينا، يدنو حانيًا، وأدرت رأسي ناحية أخرى لئلا يرى ضعفي منشورًا على صفحات وجهي، ولمحت ابتسامته واشفاقه
قال : هدئ روعك يا بني، فما عليك لا يستوجب كل هذا الضجيج في داخلك ؟
قلت : دعني وشأني
قال : أعلم أنك مظلوم وقد تركك الرؤساء والزعماء من حسبتهم ظلك وسندك ، فأذهب الى رب العباد .
قلت : أنا أصلي، وفي مسجده، أين أذهب بعد هذا ؟
وشعرت به يبتسم من ظلال جلوسه عليّ، ويد ملساء تداعب رأسي ، يقول : بل اذهب اليه في زمن ينام فيه الناس، وتقف بين يديه.
وأجفلت، وَغِيضَ الدمع، وسألته : ألا تكفي صلاتي ؟
قال، وقد أشرق وجهه: لا، فإنها فرض عليك، واستدرك : وما أنت فيه ضر مسّك وتوجب معه دعاء خالص، وصلاة طويلة، ومناجاة عبد لبارئه، تُكفيك مناجاة العباد والعبيد ولو كانوا ملوك الأرض
وأشرقت الفكرة في داخلي مثل تنور أوقِد لاستواء الخبز، وذهبت مذ ذاك اليوم إلى محراب السجن المتهالك، فرحًا، أستغيث بالله في جوف ليل لا يراني أحد سواه، وتصبّرت، وتعلمت أن أطفو على آلامي وهمّي، فكل أربابي ظهروا أصنامًا من تمر نخره السوس والدود، وبقي الرب الحقيقي في ملكوته، يترقب قدومي، ويسمع صوتي، ويجيب دعوتي، وينزّه روحي، ويكشف غميّ. مِنه وحده سبحانه وتعالى طلبت الرحمة والمغفرة والخروج من أسري شامخًا عزيزًا .
وقد خرجت من بينهم، وتذكرتهم يوم أحاطوا بي وكنت في غيّ أعمه به عن الصواب، ورأيتني بعد ثلاثة أشهر رجلًا مختلفًا، قويًا في داخلي، صلبًا مثل رأس مطرقة، أمضي من أمامهم ولا يكادون يصلونني، ثم هاجرت إلى حيث أراد الله، وتركت نفسي تمضي بمشيئته حُرة من نفوس الخلق، وأنفاسهم .
وها أنا ذا أقاوم وأقاتل، لا أَكِل ولا أَمِل، وقد شمّرت حياتي كلها ممتشقًا سيفًا لا يُغمد باتجاه أؤلئك الفاسقون .. أعيش بأخطائي البشرية، وأصيب، وأُتبِع السيئة الحسنة، أكتب عن تجربتي، وقد أبدو أمامكم الآن مجنونًا، لكن هذا ما حدث . وهو ما أنا عليه اليوم .
ومساؤكم سُكر