الزعيم اليماني تبع الكامل.. أول من أمر بتطهير ساحة الحرم وقدس الكعبة، وأخرج الأصنام إلى خارج الحرم وأول من جعل للكعبة بابا ومفتاحا.
هو الزعيم أبو كرب أسعد الكامل.1 ذُكر اسمه ولقبه في عشرين نصا مسنديا بصيغة: "أبي كرب أسعد، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمانت وأعرابهم طودا وتهامت" وبحسب نصوص المسند فإنه أول الموحدين الملوك؛ لأن النصوص التي قبله ارتبطت بالآلهة الوثنية؛ أما النصوص التي في زمنه فقد كانت توحيدية؛ بل لقد صار التوحيد هو العقيدة الرسمية للملك وللشعب حسبما ذكر المستشرق الآثاري د. بيوترو فسكي2.، فنقوش عصر أبي كرب أسعد وخلفائه تنطق بالتوجه إلى إله واحد، هو ذو السموات (ذ ي/ س م و ي) وهو سيد السماء والأرض (مرا/ سمين/ وأرضن.3
وهو الذي أشار الله إليه في القرآن الكريم في سياق المفاضلة بينه وبين قريش، فقال: (أهم خير أم قوم تبع)؟! والاستفهام إنكاري تقريري.
قال الإمام القرطبي: "إن الله سبحانه وتعالى إنما أراد واحدا من التبابعة، ملوك اليمن، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشد من معرفة غيره، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا تُبَّعا فإنه كان مؤمنا" فهذا يدل على أنه كان واحد بعينه، وهو أبو كرب أسعد الذي كسا البيت.. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع أسعد إلى اليوم الذي بعث فيه النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألف سنة.. وقد اختلف هل كان تبع نبيا أو ملكا، فقال ابن عباس: كان تبع نبيا، وقال كعب: كان ملكا مؤمنا.. وقد افتخر أهل اليمن بهذه الآية إذ جعل الله قوم تبع خيرا من قريش.."4
وكان قد قدم على أسعد تبع شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهنا فأقام عنده، فلما أراد توديعه، قال تبع: ما بقي من علمك؟ قال: بقي خبر ناطق وعلم صادق.. أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، فبعث تبع إلى الزبور، فنظر فيه، فإذا هو يجد صفة النبي صلى الله عليه وسلم.5 ، وفيه أنشد:
شهدتُ على أحمد أنه رسول من الله باري النسم
فلو مُد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم
وأزمت طاعته كل من على الأرض من عرب أو عجم
وهو أحمد سيد المرسلين وأمة أحمد خير الأمم
وقال ابن كثير: "قوم تبع هم سبأ"6 وفي الحديث: روى معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تسبوا أسعد الحميري، فإنه أول من كسا الكعبة"7 وقال نشوان بن سعيد الحميري: "وكان أسعد تبع بن ملكي كرب ملكا عظيما.. وكان مؤمنا بالله، وهو الذي نهى النبي عن سبه، وأخبر وبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم.8
وأسعد تبع أول من أمر بإخلاء ساحة الحرم الشريف من الأصنام والتماثيل، وتطهير بيوت الله، وحسب المستشرق بيوترو فسكي: "أحدث أسعد بعض البدع في مكة؛ إذ دعا إلى تقديس الكعبة، وأمر بإلقاء الأصنام خارج ساحة الحرم، ومنع إراقة الدماء"9.
وفي تاريخ الأمم والملوك للطبري: ولى أسعدُ الجرهميين سدانة البيت، وأمرهم بتطهيره، وألا يقربوه دما ولا ميتة ولا ميلاثا، وهي الحائض..10. وأن "الشِّعب" من المطابخ بمكة سمي بهذا الاسم لأن أسعد تبع نصب المطابخ في ذلك الموضع، وأطعم الناس فيه، وأن أجياد سميت باسم أجياد، لأن خيل أسعد تبع كانت هناك.11.
وهذا مما كان سائدا من المعتقدات اليمنية خلال تلك الفترة، حيث "يذكر نقش مسند عُثر عليه في مارب أن امرأة قدمت قربانًا إلى الإله ذي سموي ـ ذي السموات ـ لأنها دخلت بيته وهي حائض ولم تغتسل، فكان أن لزمتها كفارة، وامرأة أخرى تضرعت إلى الإله ذي سموي ليغفر لها خطيئتها ويتوب عليها، لأنها أخطأت في حق بيته، فقد ذهبت إليه وهي غير طاهر"12.
وورد في النقش رقم 395ـ ربر توار. من الجوف أن رجلا دخل معبد الإله ذي سموي بملابس متسخة ـ غير طاهرةـ فدفع فدية لأنه ارتكب إثما. وورد في النقش رقم 1052ـ جلازر. من الجوف أن رجلا اتصل بامرأة، ثم دخل المسجد بملابسه التي كان يلبسها حين اتصل بها، فدفع فدية ـ كفارة ـ عن ذلك لأنه ارتكب إثما. وتعكس تلك النقوش قدسية بيوت الإله بحيث يستوجب على القاصدين إليها غسل أجسامهم وملابسهم، وتحريم الممارسة الجنسية، وتحريم إراقة الدماء، حرمة وتقديرا لتلك البيوت"13
وهناك عشرات النصوص الأخرى المشابهة، في أكثر من مكان..
قال نشوان بن سعيد الحميري: "وأسعد أول من كسا البيت، وذلك أنه عند رجوعه من غزاته هذه مر بالبيت فكساه الأنطاع المذهبة اليمنية، فرأى في المنام قائلا يقول: زد في كسوة البيت، فكساه المعافري، فرأى في المنام قائلا يقول: زد في كسوة البيت، فكساه الوشي.. ونحر بمكة سبعين ألف بُدنة، وطاف وسعى، وعمل له بابا ومفتاحا، لم يكونا له قط.14 ، وفي ذلك قال:
وجعلت إقليدا لجانب بابه وجعلت بابيه صفيح المسجد
وأسعد تبع هو أول من ينسب إليه لفظة "آمين" التي نرددها عقب الانتهاء من سورة الفاتحة، حيث ذكر المؤرخ محمد حسين الفرح نسبة إلى مطهر الإرياني أنه " قد تم العثور في موقع مسجد "تنعم" بخولان على نقش مكتوب في سطر واحد بطول دعامة، وأول النقش مدفون تحت الأرض، أما الجزء الظاهر من النقش فمكتوب فيه: هذا/ بيتن/ مسجد/ آمين/ آمين. وقد يكون النقش عن بناء ذلك البيت، بيت الله، ثم دعاء: ليرع الله هذا البيت/ المسجد، آمين".15
وكذلك جاء لفظ "آمين" في النقش رقم 71 إرياني عن بناء أحد القصور: ".. بردء/ ال ن/ ذي بسمين/ أي: بعون الله ذي بالسماء. وينتهي النقش بدعاء، وبكلمة آمين.16
وفي الشعر المنسوب إلى أسعد تبع في كتاب الإكليل للهمداني ما يدل دلالة واضحة على توحيده الخالص، ومنه:
الحمدلله والبقاء له كلٌ إلى "ذي السماء" مفتقر
وأيضا:
وكسوت بيت الله أعظم كسوة أرجو الثواب ويرحم الرحمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ــ قال المؤرخ محمد حسين الفرح: هناك يخلط البعض توهما بين أبي كرب أسعد المذكور هنا، والمشار إليه في القرآن الكريم، وبين تبع الأصغر، عمرو بن حسان، صاحب الحبرين الذي اعتنق اليهودية في فترة لاحقة. وقد أشار إلى ذلك الهمداني في الإكليل، 220/8. وربما كان من وجوه الخلط والتوهم يعود إلى أن كليهما قد كسيا الكعبة؛ أما الدكتور يوسف محمد عبدالله فقد قال بأنه هو نفسه تبع صاحب الحبرين، وقد حكم اليمن آخر القرن الرابع الميلادي، وبداية الخامس، قبل ظهور الإسلام بحوالي مئتي سنة، وحكم معظم الجزيرة العربية.
2ــ ملحمة أسعد الكامل، د. بيوترو فسكي. 68.
3ــ الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبأ وحمير 650/2.
4ــ التفسير الجامع لأحكام القرآن، 144/3.
5ــ تاريخ الأمم والملوك، الطبري، 98/2. يذكر الفرح أن الكاهن الصدفي هو معلم أسعد في صغره، ومنه عرف دين التوحيد وتعاليم الزبور.
6ــ تفسير القرآن لابن كثير. وانظر أيضا البداية والنهاية، 166/2.
7ــ نفسه،
8ــ السيرة الجامعة، قصيدة نشوان الحميري، 122. وقد ذكر أن أمه الفارعة بنت موهبيل من خمر، وأن أباه من قبله قد اعتنق دين التوحيد، ثم رحل بعد ذلك إلى ظفار إب وعمره عشر سنوات، تحت رعاية جده لأمه موهبيل، بعد هلاك والده، وهناك عرف باسم "أسعد بن تبان" ودرس الفلك والهندسة والنجوم والشعر وعلوم الدين، وأجاد الكتابة، وتولى الحكم وعمره خمس وعشرون سنة، في العام 703 قبل الميلاد، 517 للتقويم السبئي، بعد ثورة قام بها ضد الملك السابق.. وانظر هذا أيضا في: الجديد محمد حسين الفرح، 645/2. فما بعدها.
9ــ ملحمة أسعد الكامل، سابق، 113. وانظرها أيضا في الجديد 653/2.
10ــ تاريخ الأمم والملوك، سابق، 39/2.
11ــ نفسه، 96/2.
12ــ أوراق في تاريخ اليمن وآثاره، د. يوسف محمد عبدالله، 154/2. وأنظرها أيضا في الجديد 653/2.
13ــ الديانة عند قدماء اليمنيين، د. أسمهان الجرو، مجلة دراسات يمنية، العدد: 48، أكتوبر، 1992م. وانظرها في الجديد، سابق، 653.
14ــ السيرة الجامعة، سابق، 134.
15ــ الجديد في تاريخ سبأ وحمير، سابق، 652. وانظر أيضا: في تاريخ اليمن، مطهر الإرياني. 7.
16ــ نفسه، وانظر أيضا نقوش مسندية وتعليقات، النقش رقم 71 إرياني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف من كتاب بعنوان: (المجد والألم.. ما ذا يعني انتمائي لليمن)؟! للمؤلف. قيد الإعداد.