الثقافة في اليمن.. التشبث بالبقاء في زمن المليشيا والحرب
الميثاق نيوز- متابعات - شهد النشاط الثقافي في اليمن تراجعاً كبيراً في السنوات الخمس الأخيرة، بسبب احتقان المشهد اليمني في عمومه بالصراع والعنف، بداية من الانقلاب الحوثي على الدولة في 2014، ثم قدوم التحالف العربي الذي أجج المشهد أكثر.
تباعاً، ومع اتساع دائرة العنف، كانت الثقافة تتلاشى تدريجياً، بينما يتمدد الصراع ليلتهم كل شيء؛ ومع تقادم الحرب باتت الثقافة مشهداً مغيباً، خصوصاً في تلك المحافظات التي ظلت تحت سلطة مليشيات الحوثي إلى اليوم، منها العاصمة صنعاء التي شهدت رقابة صارمةً على كافة الأصعدة فرضتها المليشيات؛ سيما الصعيد الثقافي، الذي ظل كمتنفس أخير للنشاط الإنساني، بعد تجريم الخوض في حقل السياسة.
ورغم ذلك لم تكن الثقافة -بصفتها نشاطاً إنسانياً مجرداً- تمضي بشكل حر، ولم يشفع لها كونها توجهاً مستقلاً ينبذ التصنيف، ويتجاوز أدوات الصراع ليسمو بالإنسان، بل إنها تعرضت للتضييق بشكل عام، وللبطش في بعض قطاعاتها، من ذلك إغلاق بعض المؤسسات، كمنظمة "روابط" للإنتاج الفني التي داهمها الحوثيون فور دخولهم صنعاء، إضافة إلى ملاحقتهم لبعض الفنانين كالمطربة "ميثال محمد"، التي لجأت إلى كندا بعد تعرضها للتهديد من قِبلهم.
عُزلة ثقافية
من ناحية ثانية، بات المثقفون في صنعاء معزولين عن محيطهم العربي، خصوصاً بعد غياب معرض صنعاء للكتاب، الذي كان نافذة لهم من أجل التواصل مع الحراك الثقافي العربي والعالمي، وقد مثل هذا الغياب أعظم خسارة مُنيت بها الثقافة في اليمن كما يشير إلى ذلك الكاتب وجدي الأهدل.
يقول الأهدل في حديثه لـ"الموقع بوست": "إن المثقفين في صنعاء يعانون من حرمان معرفي، نتيجة لغياب المجلات والملاحق الثقافية المحلية، إضافة إلى انقطاع المجلات العربية التي كانت تُستورد سابقاً"، ويستدل هنا بوجود دراسات ونصوص عربية مهمة تنشرها المجلات العربية؛ لكنها لا تصل للمثقف في اليمن، وهذا بحسب رأيه يجعل المبدعين اليمنيين متأخرين عن أقرانهم العرب على مستوى المعرفة، الأمر الذي يعيق انفتاحهم على التجارب الأدبية الحديثة في السرد والكتابة.
ويرى الأهدل أن الشعراء وكُتاب الرواية هم أكثر من يحتاج إلى متابعة جديد الفكر والأدب والفن على المستويين العربي والعالمي، وذلك من أجل انعكاس الحداثة على إنتاجهم الأدبي في اليمن إذا ما أردنا التطور والمنافسة عربياً.
وعن مستقبل الثقافة في صنعاء في ظل الحرب، لا يُبدي الأهدل تفاؤله كثيراً، فهو يعتقد أن ازدهار الثقافة أمر يعتمد على تحرر المجتمع من الأيديولوجيات المُصدِّرة للعنف، وهو حدث يراه الأهدل بعيد التحقق. على الرغم من ذلك يقول الأهدل في ختام حديثه: "إن الخناق الذي تفرضه الحرب حالياً على الثقافة سيقودها إلى الانفجار مستقبلاً". ويؤكد: "ستنتهي هذه الحرب بطريقة ما، سترحل وتترك عطشاً ثقافياً لدى الجماهير، لن يملأه شيء سوى انكبابهم على المعرفة والثقافة والإبداع".
الشعراء ينزفون بصمت
من جهته يقول الشاعر زين العابدين الضبيبي إن تدهور المشهد الثقافي، سيما في صنعاء، هو أمر محزن وباعث للأسف.
يبذل الضبيبي ورفاقه الشعراء الشباب جهوداً حثيثة لرأب الصدع الثقافي في صنعاء من خلال تنظيم بعض الفعاليات الشعرية، لكنه يقول إنهم لا يفلحون في التصدي للموجة الثقافية التي تفرضها السلطة الطائفية وتسعى لتعميمها في كل مكان.
يتحدث الضبيبي إلى "الموقع بوست" قائلاً: "لقد أقُصيٙت الثقافة الحرة في صنعاء تحت ذريعة الحرب، وفي المقابل فُرضت ثقافة الموت في المحافل والمنابر، وفي المدارس والجامعات بشكل فوضوي ومستفز".
وحول تأثير الحرب على المثقفين، يرى الضبيبي أن واقعهم لا يختلف كثيراً عن واقع الثقافة، ويؤكد على أن "الكثير من الشعراء والكُتاب ينزفون اليوم بصمت، مثقلين بواقعهم الشخصي واستحقاقات المعيشة اليومية، سيما بعد انقطاع الرواتب".
ويشير الضبيبي إلى أن المبدعين اليوم باتوا مقصييّن أكثر من أي وقت مضى، وأنهم ضحايا للتصنيف وتجاذبات السياسة.
وبات تأثير الحرب على الثقافة موضع جدل عند الكثير من المثقفين، ففي حين يرى البعض أن الحرب تسببت في تدهور الثقافة وإقصائها؛ يرى البعض الآخر أنها قد أنعشت الإبداع وساهمت في نشوء أنساق ثقافية وإبداعية جديدة ما كانت لتظهر بغياب الحرب. ينطلق أنصار هذا الرأي من فرضية أن الحروب غالبًا ما تُفجر الإبداع، وتتخلق بفضلها ظواهر إبداعية جديدة ومختلفة كُليًا.
حضور خافت
وفي هذا السياق، يرى الشاعر زياد القحم أن الثقافة ما تزال حاضرة في صنعاء، حيث يقول: "إن الأنشطة الثقافية غابت في مستواها المثالي خلال السنوات الأخيرة، لكنها لم تنقطع في الحد الأدنى منها"، وهو يستند في كلامه إلى عدد من الفعاليات الفنية والأدبية التي تُقام بشكل دوري في نادي القصة "إلمقة"، وكذلك في "مؤسسة بيسمنت الثقافية". ويشير إلى أن هذه الأنشطة هي أشكال جيدة للمقاومة الإبداعية للواقع الصعب الذي لا يؤمن بدور الثقافة ولا يترك لها أي مساحة.
ويعتقد القحم أن للحرب دور إيجابي يجده في ظاهرة الإبداع الأدبي عند كثير من الشباب، ويؤكد أن اليمن ستخرج بكوكبة من الُكتاب المبدعين الشباب عقب انتهاء الحرب، وهذا بحسب رأيه مكسب كبير للثقافة.
يوافقه الرأي الشاعر قيس عبد المُغني الذي يؤكد على أن المشهد الثقافي يعود للانتعاش من جديد بعد تجاوزه العام الأول للحرب، الذي أسماه عام الصدمة، ويفسر هذا الانتعاش بأنه رد فعل للثقافة ضد الحرب، ويرى قيس أن الظروف السيئة التي يمر بها المثقف اليمني؛ دفعته نحو الإبداع كملاذ أخير لممارسة الحياة. يقول: "نحن الآن أمام المعدن الحقيقي لليمني الذي يظهر فجأة في أقصى حالات اليأس والسوداوية".
تأثير الحرب
ومن ناحية أخرى، اقتحمت "المعاناة" دائرة الجدل عند المثقفين كقيمة ذات بُعدين، إذ يعتقد البعض أنها تولد الإبداع، فيما يرى آخرون أنها قاتلة للإبداع، ويحتدم النقاش حول علاقتها بالإبداع، لكنه غالبًا لا يؤدي إلى طريق، فكلا الرأيين يستندان إلى حجج قوية. وتبقى "المُعاناة" مسألة ثقافية غير محسومة.
الشاعر إبراهيم طلحة: أحدثت الحرب تأثيرين مختلفين على الإبداع، الأول إيجابي والثاني سلبي.
وفي هذا الخصوص، يقول الشاعر إبراهيم طلحة: "تحدث الحرب تأثيرين مختلفين على الإبداع"، ويضيف: "تنعكس الحرب إيجاباً على فريق مُعيّن من المبدعين، يجدون فيها مصدر إلهام للإنتاج الأدبي والفني، تتيقظ مواهبهم أكثر في ظرف المعاناة، وينطلقون في تجاربهم من وسط المعاناة ليخلقوا أدبًا وفنًا ناجحًا".
ومن ناحية ثانية، فإن الحرب تنعكس سلباً على فريق آخر من المبدعين، وهؤلاء بحسب طلحة "المحبطون الذين لا يستطيعون التصالح مع الحرب بتاتاً، ينكفؤون على ذواتهم، وتجدهم منهكين طوال الأزمة، ومع تقادم الحرب يفقدون شغفهم وطاقاتهم وحتى شهيتهم للحياة". ويرى طلحة أن هؤلاء غالبًا ما تتسم كتاباتهم بالعدمية بعد انتهاء الحرب.
"المعاناة لا تولد الإبداع حين يتعلق الأمر بلقمة العيش"، هكذا يُعلق الكاتب الروائي عبد الله عباس الإرياني، ويقول في حديثه لـ"الموقع بوست": "إن المعاناة التي تولد الإبداع ليست المعاناة المادية، ومن يقول ذلك فهو مخطئ". ويشير إلى أن قائل العبارة كان يقصد بها المعاناة العاطفية في العشق، والتي تُصبح مصدر إلهام إبداعي في الكتابة والشعر.
وعن مدى تأثير الحرب على حركة الإبداع، يؤكد صاحب رواية "الحب في زمن الكلاشينكوف" على أن قلق الحرب يعيق حركة المبدعين. ويقول لـ"الموقع بوست": "إن الضرر الأكبر من نصيب كُتّاب الروايات، ذلك أنهم أكثر من يحتاج إلى الاستقرار النفسي أثناء عملية الكتابة". ورغم ذلك ينظر الإرياني إلى الأمر بنسبية، ويرى أن بعض الكُتاب استطاعوا تجاوز مأزقهم الشخصي والمضي قدماً. ويضيف: "لقد تغلبوا على مخاوفهم وأنجزوا بعض الأعمال أثناء الحرب، وهؤلاء يستحقون كل التقدير".
ويؤكد الإرياني على أن معاناة المبدعين في صنعاء مضاعفة، فهي من ناحية مادية بسبب انقطاع الرواتب وشحة مصادر الدخل، ومن ناحية ثانية هي معاناة نفسية مع اشتداد وطأة الحرب وتحول البلد إلى مأساة إنسانية مفتوحة، وهي فوق ذلك معاناة وأزمة ثقافية، بسبب العزلة التي يعيشيها المبدعون، وانقطاعهم عن محيطهم العربي.
صمود الرواية
وفي الفترة الأخيرة تقلصت مظاهر الثقافة في صنعاء إلى حد كبير، من ذلك غياب المعارض التشكيلية التي كانت تُقام في السابق بشكل متواصل، وتراجع حراك الفعاليات والندوات، بسبب إغلاق معظم المؤسسات الثقافية أبوابها. أما مهرجانات السرد فلم تعد تُعقد كما السابق، وبالنسبة للكِتاب فلم يعد حاضرًا في حقل التداول، ومن النادر ما يتم إصداره محليًا سيما أن معظم المؤلفين اتجهوا لإصدار إنتاجاتهم عن طريق دور نشر عربية، وبالتالي فإن حراك النشر بات مشلولاً بالكامل.
الشاعر قيس عبد المُغني: المشهد الثقافي يعود للانتعاش من جديد في اليمن كرد فعل للثقافة ضد الحرب.
وقد ظلت الثقافة حيّة على صعيد الإنتاج؛ الروائي منه بشكل خاص، وهذا الجانب الوحيد الذي ظل حُرًا خارج منال المليشيات، وبعيدًا عن دائرة الصراع، فقد استفاد بعض الكُتاب من واقع الحرب الذي يُعد مادة خصبة للسرد، وأنتجوا أعمالهم الإبداعية في الرواية والشعر، وقد اكتسبت مؤلفاتهم قيمة إبداعية كبيرة وصدرت من دور نشر عربية مرموقة، مثل رواية "أبي صهيب العزي" لوليد دماج، والتي صدرت مؤخراً عن دار أروقة في مصر، و"ماذا تركت وراءك؟ قصص من بلاد الحرب المنسية"، لبشرى المقطري، الصادرة عن دار الريس في بيروت، إضافة إلى "أرض المؤامرات السعيدة" لوجدي الأهدل، التي صدرت عن دار نوفل – هاشيت أنطوان في بيروت.