منذ عام 2015، عانت اليمن من اقتصاد مفكك جراء الانقلاب الحوثي المدعوم ايرانيا؛ كل محافظة تدير مواردها بشكل منفصل، والمنافذ البحرية والبرية تحولت إلى مراكز مالية مستقلة، ما أدى إلى تفكك الخزينة العامة وتشتت الإيرادات في حسابات فرعية خارج إطار البنك المركزي.
وفي خطوة تُعد من أبرز مؤشرات التغيير في إدارة المال العام، أصدر مجلس القيادة الرئاسي في 28 أكتوبر 2025 القرار رقم (11) لعام 2025، الذي يهدف إلى إعادة بناء النظام المالي والاقتصادي في المناطق الخاضعة للحكومة الشرعية المعترف بها دوليا.
القرار لم يكن مجرد توجيه إداري، بل إعلان واضح عن عزم الدولة استعادة سلطتها المالية، وتوحيد مؤسساتها، وإنهاء فوضى الإيرادات التي رافقت سنوات الحرب.
القرار رقم (11) جاء ليضع نهاية لهذا الواقع، ويؤسس لمرحلة من الانضباط المالي والمؤسسي.
يرتكز القرار على محورين أساسيين: توحيد الإيرادات تحت إدارة مركزية واحدة، وربط ذلك بإصلاحات هيكلية تضمن استدامة الموارد.
فالمحافظات المحررة- عدن، مأرب، حضرموت، المهرة، وتعز - مُلزمة بإيداع كل الإيرادات المركزية في حساب الحكومة العام لدى البنك المركزي.
كما ألغى القرار الرسوم غير القانونية وأمر بإغلاق المنافذ غير المرخصة مثل قنا والشحر ونشطون ورأس العارة، مع إخضاع عائدات الموانئ لصندوق صيانة الطرق للحد من ظواهر الاقتصاد الموازي.
شمل القرار أيضًا جانب الإنفاق والرقابة. ألزم السلطات المحلية ووزارتي الدفاع والداخلية بإزالة نقاط الجباية غير القانونية التي أثقلت حركة التجارة، وشدد على أن الجمارك سلطة مركزية لا يحق للمحافظين منح إعفاءات أو تخفيضات خارج القانون.
كما أقر إصلاحات نقدية مهمة، أبرزها تحرير سعر الصرف الجمركي خلال أسبوعين من بدء التنفيذ، وتفعيل لجنة تمويل وتنظيم الاستيراد لحماية الاستقرار النقدي، وتوحيد أسعار المشتقات النفطية في المحافظات المحررة للحد من التهريب.
أما على صعيد إدارة الإنفاق، فقد ألزم القرار الحكومة بتجميد الإيرادات المُجنبة مؤقتًا لشهري نوفمبر وديسمبر، مع إعداد موازنات محلية شفافة بالتنسيق مع المحافظين.
وأكد أولوية دفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين والمتقاعدين والمبتعثين في الخارج باعتبارها التزامًا وطنيًا يحافظ على الثقة بين الدولة والمجتمع.
لضمان التنفيذ، فُرضت آليات رقابية دقيقة؛ حيث يُلزم القرار رئيس الوزراء برفع تقارير نصف شهرية عن مستوى التطبيق، مع تحديد الجهات المقصّرة تمهيدًا لاتخاذ إجراءات قانونية ضدها.
كما تم تفعيل ربط فرع البنك المركزي في مأرب بالمركز الرئيسي إلكترونيًا، خطوة رمزية نحو توحيد النظام المالي .
على الصعيد الخارجي، يُمثل القرار رسالة طمأنة للشركاء الإقليميين والدوليين- وعلى رأسهم السعودية والإمارات والمانحون الغربيون - بأن الحكومة الشرعية تتجه بجدية نحو الإصلاح المالي والإداري، ما قد يفتح الباب أمام دعم جديد أو مفاوضات لإعادة هيكلة الديون.
في المقابل، من المتوقع أن تواجه الخطة مقاومة من نخب محلية فقدت مصادر نفوذها، ومن شبكات اقتصادية استفادت من الفوضى السابقة.
في المحصلة، القرار رقم (11) لا يقتصر على ضبط المال العام، بل يُعيد تعريف علاقة الدولة بمؤسساتها ومواطنيها.
إنه اختبار حقيقي لحكومة دولة سالم بن بريك على بناء مركز مالي موحد بعد عقد من الانقسام، وخطوة عملية لاستعادة روح الدولة التي تنظم مواردها بشفافية وتنفقها بمسؤولية، وتعيد الثقة لمواطنيها بأن سلطة القانون والنظام قد عادت.
الأثر السياسي للقرار الرئاسي
تقويض النفوذ المحلي لمحافظي المحافظات
يمثّل القرار ضربة مباشرة إلى الحكم المحلي الذاتي الذي اتسمت به بعض المحافظات، خصوصاً حضرموت ومأرب، حيث كان المحافظون يتحكمون بتدفق الإيرادات ويستخدمونها لتمويل أجهزتهم الأمنية والخدمية دون الرجوع إلى الحكومة المركزية. إلزام المحافظين بإيداع الإيرادات في حسابات البنك المركزي يُضعف من قدرتهم على التفاوض أو فرض وجودهم كمرجعية مستقلة.
تعزيز سلطة الحكومة ومركزية الدولة
يؤكد القرار سياسة إعادة توحيد الدولة المالية، وهو هدف استراتيجي للحكومة الشرعية. ويشكل إلغاء جميع الرسوم غير القانونية والصناديق الموازية وإعادة توجيه الإيرادات عبر قناة مالية واحدة خطوة حاسمة في هذا الاتجاه.
تحدّيات التوافق الداخلي
رغم أهميته، فإن القرار قد يُولّد مقاومة من سلطات الامر الواقع المحلية، خصوصاً في المحافظات الغنية بالإيرادات مثل حضرموت (موانئ ونفط) والمهـرة (منافذ حدودية). وقد تلجأ بعض الأطراف إلى التأخير أو التحايل، مما يستدعي إرادة سياسية قوية من رئاسة الوزراء والقيادة الرئاسية لفرض الامتثال.
وجهة نظراقتصادية حول للقرار
توحيد الإيرادات وتعزيز الشفافية المالية
يلغي القرار الفوضى المالية السائدة، ويفرض نظاماً موحداً لتوريد الإيرادات، مما يُسهم في:
- زيادة الإيرادات الفعلية المتدفقة إلى الخزينة العامة.
- تقليل التسرب المالي والفساد عبر رقمنة الإيصالات وتوحيد نماذج التوريد.
- تمكين البنك المركزي من القيام بدوره كجهة حصرية لإدارة السيولة.
استقرار العملة وضبط السوق النقدية
يبرز البند الخاص بلجنة تمويل وتنظيم الاستيراد، وتحرير سعر الصرف للدولارالجمركي، كأداة لاستعادة الثقة في الريال اليمني، وتقليل التقلبات في سعر الصرف. كما أن إلغاء نقاط الجباية غير القانونية سيقلل من الكلفة التشغيلية على التجار، ويحفز النشاط الاقتصادي.
توحيد أسعار المشتقات النفطية
يُعد توحيد أسعار البنزين والمشتقات النفطية في المحافظات "المحررة" خطوة بالغة الأهمية، لأن التنافر في تلك الأسعار كان عاملاً رئيسياً في تشجيع التهريب الداخلي وخلق سوق سوداء، مما عطل قدرة الدولة على تحصيل الإيرادات من الوقود المدعوم.
التزام الحكومة بصرف المرتبات
بالإضافة إلى تحسين الإيرادات، يُلزِم القرار الحكومة بصرف مرتبات الموظفين المدنيين والعسكريين، وهو التزام جوهري لضمان الاستقرار الاجتماعي ولإعادة الثقة بالدولة. ومع ذلك، فإن القدرة على الوفاء بهذا الالتزام تعتمد كلياً على نجاح الإجراءات السابقة لزيادة التدفق النقدي.
الآثار الإقليمية والدولية
دعم دولي محتمل
من المرجح أن يُقابل القرار بترحيب من الشركاء الدوليين، خصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والمانحين الغربيين، لأن الإصلاحات التي يطرحها تتماشى مع شروط الدعم المالي والسياسي. وقد يُستخدم القرار كأساس لطلب حزم تمويل طارئة أو إعادة هيكلة الديون.
التأثيرات الإقليمية
السعودية والإمارات: سترى في القرار خطوة إيجابية لتوحيد اطراف الحكومة الشرعية وتعزيز قدرات مجلس القيادة الرئاسي على إدارة المناطق المحررة.
سلطنة عُمان: قد تبدي حساسية تجاه إغلاق المنافذ الحدودية في المهرة خصوصا ميناء نشطون، خصوصاً إذا أثّر على حركة التجارة التقليدية.
في المجمل يُمثل قرار مجلس القيادة الرئاسي رقم (11) لعام 2025م خطوة جوهرية لإعادة بناء الدولة المالية في المحافظات المحررة. فهو لا يعالج فقط الاختلالات الفنية في إدارة الموارد، بل يُعيد تعريف العلاقة بين المركز والمحافظات في سياق ما بعد النزاع.
نجاحه لا يعتمد فقط على الإرادة السياسية، بل على القدرة على التوفيق بين فرض السيادة المالية واحترام التوازنات المحلية. إذا تم تنفيذه بحزم وشفافية، فقد يشكل نقطة تحول حقيقية على طريق الاستقرار الاقتصادي والمالي في اليمن.