إبادة الكتب... التاريخ المخزي للقرن العشرين
الاثنين 6 أغسطس 2018 الساعة 12:39
متابعات
مثلما يحدث للبشر، لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ، فها هو باول جوزف غوبلز،‏ وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر، صاحب العبارة الشهيرة «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي»، يخاطب مجموعة من شبانه الموالين للنظام وهم يحرقون آلاف الكتب على مرأى ومسمع من الجميع، في طقس احتفالي حماسي فرضته النازية الألمانية، ضمن ما فرضت من إبادة وتطهير عرقي، قائلاً «لقد أبْلَيْتُم أيها الطلاب بلاءً حسناً في هذه الليلة بإلقاء آثار الماضي هذه في قلب النيران... الماضي يرقد هنا في قلب النيران... واليوم تظلنا هذه السماء وأمام هذه الألسنة من اللهب سنقسم قسماً جديداً»، لتكون الحقبة الهتلرية الحالة المثالية لتدمير الكتب والمكتبات في القرن العشرين.
 
هذه الواقعة وغيرها ضمن ما يرصده كتاب «إبادة الكتب... تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين» الصادر حديثاً عن سلسلة «عالم المعرفة» في الكويت لمؤلفته ربيكا نوث، الأستاذة بجامعة هاواي والمختصة بعلوم المكتبات، وترجمه للعربية الباحث المصري عاطف سيد عثمان.
 
يروي الكتاب عشرات الوقائع المأسوية لإحراق وإبادة الكتب والمكتبات خلال القرن العشرين، الذي يوصف بأنه «الأكثر دموية بين القرون جميعاً؛ إذ كان فيه القتل الجماعي للمدنيين هو سبب معظم الوفيات خلاله»، وهو القرن الذي شهد إبادات جماعية مماثلة للكتب، وكل ما يمثل الثقافة والحضارة.
 
وتضمّن ربيكا نوث كتابها الكثير من الاعترافات المخزية والمؤسفة من جهة، والنادمة والمعتذرة من جهة أخرى للذين شاركوا في مثل هذه المحارق للكتب، ففي لحظة ندم يتذكر الكاتب الصيني با جين هذه الحالة الهياجية لإحراق الكتب أثناء الثورة الثقافية الصينية تحت حكم ماو تسي تونغ قائلاً «دمرت الكلاسيكيات الأدبية كأنها فئران تمر عبر الشوارع... بيدي دمرت كتباً ومجلات وخطابات ومخطوطات كنت أحتفظ بها لسنوات باعتبارها كنوزاً... تنكرت لذاتي... واعتقدت أن المجتمع المثالي هو المجتمع الذي لا مكان فيه للثقافة ولا المعرفة ولا الأعمال الأدبية».
 
ويصف أحد القيّمين على المكتبة الوطنية في العاصمة البوسنية سراييفو، الذي صار وزير العلم في البوسنة بعد ذلك، ما فعله الصرب بتراثهم الفكري، بإحراق مكتبتهم؛ إذ يروي أن «الهجوم استمر أقل من نصف ساعة، واستمرت النيران مشتعلة حتى اليوم التالي، وتناثر الورق المحترق في أرجاء المدينة... وكانت بقايا صفحات هشة تتساقط كأنها ندف ثلج أسود قذر».
 
وتستخدم المؤلفة مصطلح «الإبادة» لتوصيف تدمير الكتب والمكتبات على أيدي الأنظمة السياسية، رابطة بين «إبادة البشر» و«إبادة الكتب»، فكلاهما ينتج الآخر، مستندة لتراث البشرية في «أنسنة الكتب» ومعاملتها معاملة البشر، وبالأخص من الأطفال، مبرهنة بما يظهره البشر من «عبارات الانتحاب والرثاء أسفاً على التدمير المتعمد للكتب».
 
ولطالما ربط البشر بين قتل الإنسان وإتلاف تراثه أو كتبه، فكما يقول جون ميلتون، فإن «قتل كتاب أشبه بما يكون بقتل إنسان، بل إن من يقتل إنساناً يقتل مخلوقاً عاقلاً. أما من يدمر كتاباً نافعاً فهو إنما يقتل العقل نفسه». ويقول هاينريش هاينه «عندما يقدمون على حرق الكتب فسوف يؤول بهم الأمر إلى حرق البشر أنفسهم». وتبرهن ربيكا نوث على أن ما يحدث من عمليات لإبادة البشر، يسبقه أو يتبعه كوارث تدمير الكتب والمكتبات والإرث الحضاري، فـ«إبادة الكتب تشترك فعلياً في المجال النظري ذاته مع الإبادة... والأنظمة السياسية التي ترتكب الإبادات الجماعية هي ذاتها التي تدمر أيضاً الثمرة المادية لثقافة الضحايا وكتبهم ومكتباتهم».
 
وتسوق المؤلفة 5 نماذج للبرهنة على أن العنف الذي يمارس ضد البشر يسبقه أو يلحقه بالضرورة «عنف يمارس ضد الكتب»، وهو ما حدث في: ألمانيا النازية، والصين خلال الثورة الثقافية، والتبت، والكويت أثناء الاحتلال الصدّامي، والبوسنة أثناء الحرب الصربية.
 
وتبحث المؤلفة عن دوافع حروب «إبادة الكتب»، وترجعها لأسبابها الاجتماعية والثقافية والاستبدادية، فغالباً ما تنجم عمليات التدمير «عن تضافر بين بيئة اجتماعية مضطربة وزعامة تسلطية أو استبدادية وأيدلوجيات وسياسات متطرفة تخلق الظروف المتفسخة على مستوى قومي بيئة يستشري فيها العنف. في هذه البيئة يتطلع السكان المنهكون الهائمون بلا هدف إلى الزعماء الذين يعدِونهم بالخلاص عن طريق بنية سياسية اجتماعية جديدة قائمة على أفكار قادرة على تحويل وجه الحياة... وتسوغ هذه الأفكار التي قد تكون رجعية (قومية متعصبة أو إمبريالية أو عسكرية أو عنصرية أو دينية أو ثورية شيوعية)، استخدام العنف للوصول إلى غايات مثل التحقق القومي أو تحقيق عالم يوتوبي... ومع إحكام الأنظمة سيطرتها، تسعى إلى وضع المكتبات والكتب في دائرة الشك بوصفها إما مصدر إثارة للفتن أو أداة بيد العدو أو كبش فداء لأمة أو جماعة إثنية أو طبقة تحبط سياسات تلك الأنظمة، وعلى ذلك يصبح نهب الكتب ووضع اليد عليها وتدميرها تدميراً عنيفاً من الممارسات المقبولة».
 
وتحصر أستاذة علوم المكتبات، أسباب تدمير الكتب والمكتبات في الدوافع «القومية والآيديولوجية والدينية والعسكرية العدوانية والزعامة الفردية»، ممثلة على كل ذلك في نماذجها الخمسة التي اختارتها للتمثيل على ارتباط إبادة البشر بإبادة الأفكار. فالقومية «النازية» التي أسسها أدولف هتلر بقيادة الحزب القومي الاشتراكي، لطالما وظفت التدمير العمدي للكتب والمكتبات بوصفها واحدة من استراتيجيات الحرب، كما يرد في الدليل العسكري النازي، فإن «الحرب لا يمكن أن تشن ضد مقاتلي العدو فقط، بل يجب أن تسعى لتدمير الموارد المادية والفكرية الكاملة».
 
واقترفت جيوش هتلر الكثير من المآسي، فكي تكسر إرادة السكان في مدينة نابولي الإيطالية سكبت الغازولين بطريقة ممنهجة في كل غرف الجمعية الملكية في نابولي فدمر زهاء 200 ألف كتاب من أثمن كنوز التاريخ الإيطالي. وأعاد الألمان إحراق مكتبة لوفين في بلجيكا للمرة الثانية، بعدما كانوا أحرقوها في الحرب العالمية الأولى، ودمروا على مدار 6 أيام 230 ألف مجلد، «تحذيراً لأعداء ألمانيا واستعراضاً لقوتها أمام العالم».
 
ولتدمير الكتب بالطبع دوافع «آيديولوجية»؛ خوفاً من أن يلجأ (الفرد) إلى أفكار تقع خارج المنظومة الآيديولوجية للحكام، وينشأ هذا الخوف من الكتب التي هي في نظرهم تكون مناهضة لسياساتهم.
 
فالشيوعية التي نشأت على مبادئ ثقافية ثورية سرعان ما تحولت في روسيا لينين وستالين، إلى «آيديولوجية متعصبة سوّغت تدمير جميع مناهضيها من البشر والمؤسسات»، ومورست على المكتبات الروسية على الأخص بدءاً من العام 1924 حملات تطهير استهدفت مؤلفات «أفلاطون وكانط وتولستوي ودستوفيسكي وغيرهم»، وهو ما اعتبره الكتاب الروسي مكسيم غوركي عمليات «مص دماء الفكر»؛ إذ اعتبرت كروبسكايا زوجة لينين وأحد الرقباء أنه «من المرغوب فيه تطهير كتب الفلاسفة لأنها تروج لأفكار ضارة... كما أن الكتب الأخرى خبيثة ومهلكة لأنها تتحدث عن الدين أو هراء الأنظمة التقليدية أو موضوعات ولى زمنها».
 
وكانت للثورة الصينية الثقافية هي الأخرى عواقب وخيمة على الكتب والمكتبات، مدفوعة بأسباب آيديولوجية متطرفة، دافعة في الوقت ذاته الملايين من الشباب «الأحمر» ومن الجماهير للمشاركة في حملات إبادة ضد أي شخص يعارض سياسات ماو وأفكاره، كما نشرت صحيفة «الشعب» اليومية عام 1966. وعليه؛ انتزعت من الأرفف 4 ملايين كتاب «صنفت باعتبارها عشباً ساماً».
 
وجمعت الكتب التي كوَّنت، كما يروي أحد أفراد الحرس الأحمر، «جبلاً صغيراً» وأشعلوا النيران فيها و«صاحب الشعارات المهتاجة والانفعالية الدخان الكثيف المتصاعد من السماء... وشعر أفراد الحرس الأحمر بأن مجرد إحراق الكتب ليس فعلاً ثورياً بما يكفي فسيق أفراد العصابة السوداء (المعلمون) وأجبروا على الوقوف هناك خافضين رؤوسهم راكعين؛ حتى يحاكموا أمام لهيب الثورة الثقافية الكبرى».
 
وللزعامة الفردية، رصيدها المخزي ضمن حروب إبادة الكتب، وتسوق ربيكا نوث مثال الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في غزوه دولة الكويت؛ للتدليل على ما يمكن أن تفعله الزعامة الفردية «البعثية»، المختبئة خلف متاريس فكرية قومية وآيديولوجية ودينية، التي ارتكبت مئات الجرائم بحق المثقفين المخالفين أو المستقلين، حتى أنها في عام واحد عام 1979 «اعتقلت 200 شاعر وقاص وموسيقي ومخرج وفنان. ومات كثير منهم تحت وطأة التعذيب أو سمموا بالثاليوم وهو سم جرذان كان النظام يفضله أداة للتصفية». هذه الزعامة الفردية المجنونة بجنون العظمة التي احتلت دولة الكويت دفعت جنودها إلى ارتكاب جرائم تدمير البنى التحتية الكويتية، وكان أكثر ما استهدف المكتبات والمتاحف والمؤسسات الثقافية. «ففي جامعة الكويت، في المبنى الذي ضم كليتي القانون والآداب أقيم مركز اعتقال واستجواب... ودمر الجنود ما يقرب من مليون كتاب أطفال وكتب تعليمية... كما مارسوا تفكيك المكتبات العامة ونهبها... وفقد ما يزيد على 133 ألف مجلد... وكان الدمار الأسوأ في المكتبات الأكاديمية، فأتلف جزء كبير من مقتنيات مكتبة جامعة الكويت التي ضمت 24410 مراجع، وما يزيد على 5 ملايين مجلد وتقرير ورسالة ودورية ومواد سمعية وبصرية».
متعلقات