كان محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ إلى جانب كونه نبيا ورسولا قائدا سياسيا، ورجلا حكيما، ينزل جميع الناس منازلهم بلا استثناء، إلى حد أن يفرش لبعض زائريه رداءه، كما حصل مع كثير من أقيال اليمن، ويشيد بالجميع رفعا لمعنويات القوم، ولفتا منه إلى الجانب الإيجابي والمشرق في حياة الإنسان، وإن كان فيه بعض المثالب أو السلبيات، فطبيعة القائد يربي رجاله وأتباعه بالرفع من معنوياتهم، وبإغضاض الطرف عن بعض الهنات الهينات، أو معالجتها بطريقة خفية، وغير مباشرة.
وباستقراء سنته القولية والعملية على الطريقة الكلية نجده في الغالب قد مدح كل الناس وأشاد بهم، كقائد حكيم وسياسي بارع، يركز على ما هو إيجابي ويعززه في النفوس، لتستمر تلك الخصال الطيبة؛ لاسيما والعرب ميالون إلى الفخر، وقد حاز شعرهم نسبة كبيرة في ذلك..
مَدَح النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أهل اليمن، فقال: "الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية" ليس ذلك فحسب؛ بل لقد مدح بطونا وقبائل في اليمن بحد ذاتها، كإشادته بهمدان ونجران وزبيد والمعافر وغيرهم..
ومدح النبي أهل الحجاز، فقال: "الإيمان في أهل الحجاز".
ومدح أيضا أهل الشام كما في حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، وأومأ بيده إلى الشام". كما قال في حديث آخر: "ألا إن عُقر دار المؤمنين الشام". وقال: " ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام".
وأشاد بذكر أهل عمان حين ضرب بعضُ الأعراب أحد أصحابه، فقال له: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ". داعيا لأهل عمان: "اللهم وسع عليهم في ميرتهم ، وأكثر خيرهم من بحرهم".
كما ذكر فيما يشبه المدح حال أهل الروم، وليسوا مسلمين: " إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك".
بل لقد قال عن الفرس: "لو كان الدين عند الثريا لذهب إليه رجل أو قال رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه".
وقال عن بني تميم: "هم أشد أمتي على الدجال".
كما قال عن قبيلة جهينة: "جُهَيْنَةُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ؛ غَضِبُوا لِغَضَبِي وَرَضُوا لِرِضَائِي؛ أَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ وَأَرْضَى لِرِضَاهُمْ؛ مَنْ أَغْضَبَهُمْ فَقَدْ أَغْضَبَنِي؛ وَمَنْ أَغْضَبَنِي فَقَدْ أَغْضَبَ اللَّهَ".
وفيما يشبه المدح كانت وصاياه ــ صلى الله عليه وسلم ــ التي لا تزال وسامًا على صدر كل الشعوب إلى اليوم، فقال في المصريين على سبيل المثال: "استوصوا بأهل مصر خيراً، وبأرض الكنانة"؛ بل لقد استوصى منهم بالقبط أيضا على وجه الخصوص، فقال: " استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما".
واستوصى ــ صلى الله عليه وسلم ـ بالأعراب فقال: "استوصوا بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام".
واستوصى بأصحابه المهاجرين قائلا: "استوصوا بالمهاجرين الأولين بعدى خيرا". وبالمقابل ــ وهو القائد والنبي المرسل للجميع ــ قال أيضا في حق الأنصار، الكيان الموازي للمهاجرين: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فأقبلوا من مُحسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم". وبصورة إجمالية يوصي أتباعه من بعده إلى يوم الدين بأصحابه، فيقول: "لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، مع الإشارة هنا إلى ألا تعارض البتة بين حق هذا الطرف أو ذاك، أو استحقاق طرف على حساب الطرف الآخر، فالكل أمامه سواء.
وإلى جانب وصيته بأصحابه بصورة عامة، فقد أوصى ببعضهم ومدحه وأكرمه أمام القوم، تعظيما لشأنه أو تقديرا لموقفه، كما يقدر القائد أتباعه، وكما يكرم المعلم تلاميذه، فقال مثلا في حق أبي بكر: "لو كنتُ مُتَّخِذًا خليلاً، لاتخذتُ أبا بكر خليلاً..". وقال في حق عمر: " "لو كان بعدي نبي لكان عمر". وقال في حق عثمان بن عفان: " أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ". وقال في حق علي بن أبي طالب: "من كنت مولاه فعلي مولاه". وهو الحديث الذي يستدل به المهووسون بحب علي بن أبي طالب على أفضليته على الخلق، والواقع أن حديث النبي في عمر السابق، أقوى دلالة وحجية من حديث علي إذا ما اعتبرنا أن هذا المدح أو الإشادة يترتب عليه من الامتيازات الدنيوية ما يترتب..! ولعمري لو كان قال النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في علي ما قاله في عمر، لكان حجة في تقديمه وأفضليته على غيره.. إلخ.
ليس هؤلاء فحسب؛ بل لقد أشاد بغيرهم من بقية الصحابة، كما قال عن خالد بن الوليد بأنه سيف الله المسلول، وقال عن حنظلة أنه غسيل الملائكة، وقال عن عمه حمزة أنه سيد الشهداء، كما قال عن سلمان الفارسي أنه منه، من آل البيت، وأيضا قال في عمه العباس: "استوصوا بالعباس خيرا فإنه بقية آبائى، فإنما عم الرجل صنو أبيه". ومنح بلال بن رباح الحبشي الأذان كوظيفة دينية مرموقة يومها، ولم يمنحها لأحد من أقاربه، وهو تقدير وتشجيع منه للطبقة التي جاء منها بلال بن رباح رضي الله عنه، وهي طبقة العبيد آنذاك.. والشواهد فوق أن تعد أو تحصى..
إلى جانب هؤلاء مدح جنس النساء بشكل عام، مستوصيًا بهن خيرا، فقال: "استوصوا بالنساء خيرا" وداخل جنس النساء، مدح وأشاد بالمرأة كأم، فقال: الجنة تحت أقدام الأمهات، وبشر الزوجة المطيعة لزوجها بالجنة. وهو ذات الشأن أيضا في قوله عن الكهول من الرجال: "استوصوا بالكهول خيرا، وارحموا الشباب". وفي يوم بدر، وبعد توزيع الأسرى قال: "استوصوا بالأسرى خيرا". كما قال أيضا في ذات الشأن: " استوصوا بأهل الذمة خيراً".
ليس ذلك فحسب؛ بل لقد استوصى حتى بالمعز، لرقته وعدم تحمله الجوع والبرد كالجمل أو الناقة، فقال: "اسْتَوْصُوا بالمِعْزَي فإنه مَالٌ رَقيق".
الشاهد: أنه ــ صلى الله عليه وسلم ــ مثلما قال كل ذلك في كل من ذكر، قال أيضا في حق أهل بيته: "أوصيكم بعترتي خيرا". أي أن وصيته فيهم كوصيته في بقية الأقوام والأجناس والأمم والذكور والنساء؛ بل والحيوانات..! فلماذا الاستغلال البشع لنص من كلمتين، وردت في حق آخرين أضعاف أضعافه، ولم يقولوا نحن أولى الخلق وأفضلهم لأن الرسول قال فينا كذا وكذا؟؟!
باختصار.. أهل البيت خلق من خلق الله.. "استوصوا بعترتي خيرا" و "واستوصوا بالمعزى..".!