لا تكتمل مسيرة الظلم إلا بوجود طرفين أحدهما تجبّر وظلَم، والآخر قَبِل واستكان، وكلاهما يتحمل المسؤولية فيما ترتب على هذا الظلم وتلك الاستكانة.
مع هذا، من اللازم علينا كيمنيين، عدم الإسراف في جلد الذّات خصوصاً عند معرفتنا أن تاريخ الشعب اليمني طيلة الدويلات الإمامية المتقطعة، لم يكن سوى سلسلة من محاولات الانعتاق تنوعت ما بين الثورة والإصلاح.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن المشروع الإمامي استفحل في واقع اليمنيين وباض وفرّخ بسبب شساعة البَوْن بين طباع اليمنيين القائمة على التسامح والتغافر والصفح وحسن الظن وعدم تصور أن ثمة من يمكن أن يتجرأ ويكذب باسم الله ورسوله، في مقابل طبيعة المشروع الإمامي العنصري القائم على الحيلة والمكر والدجل والخديعة، وارتداء لبوس الدين! واليمني أسهل ما يمكن مخادعته إذا جيء له من باب الدين.
زدْ على ذلك أن الإمامة السلالية لم تبدع في شيء قدر إبداعها في ابتكار وتنفيذ جملة من المصدات التضليلية التي تضمن لها البقاء وتحول ما بين الشعب وصحوته.
أكذوبة الألف عام!
منذ أن جاء الغازي يحيى الرسي 284 هجرية، استمر المشروع الكهنوتي ما يزيد عن ألف ومئة عام، كمشروع هدم للذات والحضارة اليمنية، لكنه لم يتمكن من الحكم إلا في فترات متقطعة وعلى مناطق محدودة من اليمن. ولو استمرت إحدى الدويلات الإمامية فترة سبعين عاما على كامل الأرض لما بقي لليمنيين كيان ولا ذرية لأن فترات الأئمة السلاليين كانت على الدوام فترات مذابح وحروب وهلاك للإنسان والعمران والعلوم.
خلال هذه المدة الطويلة تداول اليمنيون حكم بلادهم منذ الزياديين والحواليين واليعفريين والصليحيين والنجاحيين والرسوليين والزريعيين والكثيريين والقعيطيين والطاهريين والسلاطين، إضافة إلى فترات المماليك والأتراك والانجليز.
مع ذلك ظلت الإمامة مشروعا متصلا عابرا للمراحل كحيّةٍ ملساء ذات سم قاتل وحقد مزمن على كل ما يمني وعربي.
ثورة الفقيه سعيد
وأثناء الفترة الكهنوتية القاسمية وبعدها المتوكلية، في القرنين الماضيين، استمرت المحاولات الدائبة من قبل اليمنيين للخروج من ربقة الإمامة، تارةً بالدّور الإصلاحي الذي تبناه بعض العلماء والمصلحين، أو عبر الطابع الثوري الذي كانت تعتمده القبائل ضد الإمامة. على أن أبرز الثورات اليمنية (خلاف تناحرات الأسرة القاسمية ضد بعضها)، كانت ثورة الفقيه سعيد بن صالح ياسين سنة 1256هجرية، في منطقة الدنوة محافظة إب، وهي الثورة التي أسقطت 360 حصناً تتمركز فيها جحافل النهب والسلب، ودعا الإمام سعيد لنفسه، وصكّ العملة وعيّن الولاة وامتد نفوذه من “سُمارة” شمالاً وحتى “أبين” على ساحل بحر العرب جنوباً.
في كتابه “حياة عالم وأمير”، يقول مؤرخ اليمن محمد بن علي الأكوع عن هذه الثورة: “وتعتبر هذه الثورة التي قادها الإمام العارف بالله ثورة الحق على الباطل، وثورة الإصلاح على الفساد والفوضى، وثورة الإنسانية على الوحشية الشنعاء وثورة بيضاء نقية وعدل ناصح على الظلم الحالك وثورة الضعيف المقهور على الجبروت الجلاّد، وثورة التوحيد بلا إله إلا الله على ما يشبه الانحلال والفراغ النفسي. ولكن للأسف الشديد أن هذه الثورة لم تستكمل عناصرها ولم تتخذ لها العدة اللازمة من السلاح والعتاد والخيل والرجال، ولا تحددت أبعادها ومصائرها، ولم تعرف جيداً أنها ستواجه خيانات ومؤامرات ومقاومة”.
الحركة الوطنية اليمنية
لكن الاكتمال الأبرز في نضال اليمنيين ضد المشروع السلالي الكهنوتي جاء متمثلاً في الحركة الوطنية اليمنية التي بدأ نشاطها منذ الربع الأول من القرن الماضي وتكلّل بإسقاط المملكة المتوكلية الوثنية في شمال اليمن في السادس والعشرين من سبتمبر 1962، تلك التي أعقبتها بعد عام واحد، شرارة الرابع عشر من أكتوبر 1963 ضد المستعمر البريطاني في الجنوب.
مارست الحركة الوطنية اليمنية كافة أساليب التغيير ومرّت على أطوار تدرجاته، بدءاً بالنصح، مروراً بالمعارضة العلنية السلمية، وصولاً إلى الانقلاب، وانتهاء بالثورة، بما يشتمل عليه معنى الثورة من تغيير جذري للواقع المباد وبناء جذري للعهد الجديد.
والمؤكد أن وصول الحركة الوطنية إلى طور التغيير عن طريق “الثورة”، كان نتيجة لوصولها –في نضالها ضد المشروع الإمامي– إلى مرحلة النضج، بعد أن اكتملت دراساتها ورؤاها حول عقم ذلك المشروع واستحالة تعديله أو التأثير فيه، لذلك نجد الدولة المتوكلية شهدت طيلة 4 عقود من الحكم، سلسلة من الأحداث والثورات ملخصة على النحو التالي، وأغلبها مستقاة من الأعمال الكاملة للمفكر محمد أحمد نعمان (الفكر والموقف):
– في عام 1919 ثار الشيخ محمد عايض العقاب في منطقة حبيش ومعه كافة مشائخ لواء إب وتعز، وحوصر أخو الإمام في مركز المديرية 3 أشهر، وانتهت ثورة العقاب بعد استبسال عنيد ضد جحافل الطاغية يحيى بقيادة علي بن عبدالله الوزير (3).
– في عام 1919م: دبر الطاغية يحيى اغتيال شيخ الإسلام محمد جغمان ورفيقه القاضي السدمي، والشيخ مصلح مطير، ثم مجموعة من الهاشميين أيضاً آل أبي الدنيا.
– في عام 1921: اعتُقل مشايخ المنطقة الوسطى في اليمن (إب وتعز) وظلوا في السجن حتى مات أكثرهم ولم يسلم منهم غير من أبعدوا عن مناطقهم ثم أعدموا على المشانق.
– عام 1928: سُجن من قبيلة الزرانيق -وهي أقوى قبائل المنطقة الغربية من اليمن (تهامة)- 800 يمني سيقوا إلى حجة مربوطين بالسلاسل، سيراً على أقدامهم مدة أسبوع كامل، ولم يفرج عن أحد منهم من السجون حتى ماتوا جميعاً.. وفي منفى “حجة” الشهير منطقة تسمى مقبرة الزرانيق.
– عام 1936: تم اعتقال طلائع الأدباء الأحرار بعد أن شكلت أول جمعية سرية تنادي بالإصلاح في اليمن فروعها ذبحان، تعز، إب، صنعاء وكان في مقدمة المعتقلين في صنعاء أحمد بن أحمد المطاع وفي ذبحان أحمد محمد نعمان الذي سجن في تعز.
– عام 1938: اعتقلت البعثة التعليمية والعسكرية من الشباب الذين تدربوا في العراق وفي مقدمتهم الشهيدان محيي الدين العنسي، وأحمد حسن الحورش.
– في عام 1939: اغتيل الشهيد أحمد عبدالوهاب الوريث مسموماً على يد أحد أبناء الطاغية يحيى.
– عام 1943: هدد الطاغية أحمد كل الأدباء (وكان حينها ولياً للعهد) بأنه سيسفك دماءهم ما داموا يحملون الأفكار “العصرية”، فأنذر هذا الأحرار وحفّزهم لوجوب التحرك على نحو آخر، فلجأ بعضهم إلى عدن، وأعلن عن قيام حزب الأحرار اليمني.
– عام 1944: شهد اليمن الاعتقالات الشهيرة ب”اعتقالات الأحرار” وقد شملت كل المستنيرين والمأثور عنهم مجرد الرغبة في التقدم، وقد شملت الاعتقالات النابهين من الشباب والشيوخ في كل من صنعاء وإب وتعز.
– 1946: لجأ إلى عدن سيف الحق إبراهيم بن الإمام يحيى منضماً لحزب الأحرار.
– 1948: قُتل الطاغية يحيى واثنان من أولاده وأحد أحفاده ورئيس وزرائه، علي يد الشيخين الثائرين القردعي والحميقاني، وأعلن عن قيام حكومة دستورية، ولما سقطت الحكومة الدستورية، أُعدم دون محاكمة كل من:
عبدالله بن أحمد الوزير، محمد بن محمد الوزير، عبدالله بن محمد الوزير، علي بن عبدالله الوزير، حسين الكبسي، أحمد المطاع (وهؤلاء من الأسر الهاشمية)، ومعهم القائدان العسكريان محمد سرّي الشائع، وجمال جميل العراقي.
وكذلك المشائخ والأدباء: محيي الدين العنسي، محمد صالح المسمري، أحمد حسن الحورش، أحمد البراق، عبدالوهاب نعمان، الخادم أحمد غالب الوجيه، محسن هارون، عزيز يعني، صالح بن حسين الشائف، محمد ريحان، هارون بن محسن هارون، علي بن ناصر القردعي، محمد الراعي، أحمد العنجبة، عبدالله أبو راس، محمد حسن أبو راس، على سنهوب، محمد بن ناجي الحسيني، محمد قائد الحسيني، عبدالله الحسيني، حمود الحسيني. أما فيلسوف الثورة الشهيد حسن الدعيس فقد تم اغتياله بعد عودته من عدن بدس السم في طعامه بواسطة عامل تعز.
– عام 1955: انفجر البركان من جديد بقيادة الشهيد أحمد الثلايا، وأرغم الطاغية أحمد على التنازل عن العرش بعد تهديده بالقتل، ثم انتكست الحركة، وأُعدم دون محاكمة: المقدم أحمد الثلايا مع الضباط العسكريين: عبدالرحمن باكر، علي حمود السمة، قائد أحمد معصار، حسين الجناتي، محسن الصعر، أحمد الدفعي، القاضي يحيى بن أحمد السياغي وشقيقه حمود، والقاضي عبدالله الشامي، ومحمد حسين عبد القادر، والمشائخ: عبدالرحمن الغولي، وعلي حسن المطري، ومحمد ناصر الجدري، ومع هؤلاء أيضاً عبدالله والعباس، شقيقا الطاغية أحمد.
– عام 1956: اغتيال الشهيد أحمد بن ناصر القردعي، بالرصاص وهو سجين في أحد سجون (حجة) بأمر من الطاغية أحمد.
– عام 1957: قامت قبائل (صرواح) بتمرد مسلح قوّى الدعوة لتغيير نظام الحكم الهاشمي وإلغاء التمييز السلالي في اليمن.
– عام 1959: تمردت قبائل القبّيطة واليوسفيين في الحجرية، متذمّرة من سوء الأوضاع وتعسف السلطات، كما تمرد الجيش في تعز والبيضاء وحجة وصنعاء، وأحرقت منازل بعض المسؤولين، كما قتل وسجن بعضهم أثناء غياب الطاغية أحمد في روما للعلاج في إحدى المصحات العصبية. وبعودة الطاغية من إيطاليا زاد التوتر وتمرّدت القبائل بقيادة الشهيد حميد بن حسين الأحمر (داعية الجمهورية)، ولكن لم يقدر لحركته النجاح عام 1959، وأعدم هو وأبوه الشيخ حسين بن ناصر الأحمر، ورفيقهما الشيخ عبد اللطيف قائد راجح دون محاكمة.
– عام 1960: لم تتوقف القبائل عن إعلان سخطها وتذمرها في صور مختلفة فانتشرت القلاقل في البلاد منذ إعدام الشهيد الأحمر وحُوول اغتيال الإمام على يد الشهيد سعيد حسن المعروف ب”إبليس”.
– عام 1961: قام الثلاثي الثائر، اللقية والعلفي والهندوانة، بمحاولة اغتيال الطاغية أحمد في مستشفى الحديدة، تلك المحاولة التي اعتلّت بعدها صحته ومات في 19 سبتمبر 1962.