في مقال سابق، طرحنا السؤال: لماذا لا تريد أوربا أن تنقذ تركيا.. كما أنقذت اليونان عام 2009.. حين عملت لها مارشالا أمكنه جلب ستمئة مليار دولار كانت كافية لأنعاش الاقتصاد اليوناني من جديد؟ والمارشال - لمن لا يعلم - هو مؤتمر ومشروع اقتصادي لبناء وإعادة تعمير دولة ما.. وهو ينسب إلى الجنرال جورج مارشال : رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية.. الذي ألقى عام 1947 - في جامعة هارفارد - محاضرة شرح فيها مشروعه الذي كان يبتغي به ترميم وإنعاش الاقتصاد الأوربي.. ومعروف أن أوربا - خلال الحرب العالمية الثانية - تحولت لمجموعة دول نامية متخلفة يسودها الفقر والبطالة وتعاني من مجاعة وضعف في التعليم وانعدام للخدمات الطبية الصحية بل وأمراض مزمنة وأوبئة وبيئة غير صحية وبنية تحتية منهارة.. وفوق كل هذا ينخرها الفساد نخرا كما هو الآن حال كثير من الدول العربية - باستثناء دول الخليج - خاصة اليمن ومصر والعراق وسوريا وليبيا والسودان..
والجدير بالذكر: أن سفيرنا الحالي في الأردن علي العمراني كان قد وجه دعوة لدول الخليج لإنشاء (مارشال) لدعم اليمن عام 2011 حين كان وزيرا للإعلام..
إذن لو أن أوربا تريد إنقاذ تركيا لعملت لها ما عملته لليونان.. ولكنها لم تفعل ولن تفعل والسؤال لماذا؟
طبعا السبب الأول المتبادر للذهن هو: أن تركيا ليست عضوا في الاتحاد الأوربي.. وأهم من هذا أنها ليست عضوا في دول (اليورو) ومعروف أن ثمة دولا أوربية أخرى ليست عملتها اليورو على راسها بريطانيا والسويد وبولندا..
هذا سبب طبعا.. ولكنه ليس السبب الرئيسي الجوهري.. أما السبب الحقيقي الأول فهو ما يسمى (معاهدة لوزان) ولوزان هي المنطقة السويسرية المعروفة.. وهناك عقدت اتفاقية أجبرت بريطانيا وفرنسا تركيا على توقيعها.. وقد وقعها من الطرف التركي عام 1923رئيس الوزراء الهالك أتاتورك.. معاهدة لوزان هذه عمرها مئة سنة فقط.. أي أنها ستنتهي عام 2023: بعد خمس سنوات فقط.. وأهم بنودها ما يلي:
1- مصادرة جميع أموال الدولة والسلطان..
2- استقلال جميع الدول التي كانت تابعة للدولة العثمانية.. وعلى رأسها دول أوربية: كاليونان وقبرص وبلغاريا وصربيا والبونسة والهرسك وألبانيا ومقدونيا وكوسوفو وجورجيا..
3- إعلان علمانية الدولة.
4- احترام حقوق الأقليات خاصة الأكراد..
5- اعتبار مضيق البوسفور ممرا دوليا ليس لتركيا عليه سيادة.. وبالتالي لا يمكنها تحصيل أي رسوم من السفن المارة فيه.. وخليج البوسفور يصل البحر الأسود ببحر مرمرة الذي يتصل بالبحر الأبيض.. ومضيق البوسفور طبعا ممر دولي مثل باب المندب ومضيق هرمز.. وليس من حق هذه الدول إغلاقه.. ولكن من حقها تحصيل رسوم على مرور السفن فيه.. بل حتى القنوات المائية الصناعية - التي حفرها الإنسان كقناة السويس - يمنع القانون الدولي إغلاقها.. فمصر لا تستطيع إغلاق قناة السويس وأي دولة تتجاوز حدودها يتم تكسير رأسها.. ثم يتم فرض الشروط على الدولة المهزومة: كما حدث لمصر عبدالناصر 1967 وعراق صدام حسين 1991.. ولو تجرأت إيران على إغلاق مضيق هرمز لكسر العالم رأسها أيضا.. ولكنها لم تفعل ولن تفعل لأنها لا تستطيع تحمل التكلفة.. ولا تغرنكم العنتريات الفارغة أمام أمريكا.. فما يجري في الخفاء وجنح الظلام ومن تحت الطاولة شيء آخر.. الآن
بانتهاء معاهدة لوزان عام 2023 ما الذي يستطيع أرودجان - أو غيره من الرؤساء القادمين أو البرلمان - فعله؟ إليكم جزءا مما يمكن أن يحدث:
أولا: ستبدؤ المشاكل مع الدول التي في حدود تركيا: العراق وسوريا وخذوا مثلا: أن (ماردين) كانت مدينة سورية منحتها بريطانيا لتركيا بموجب معاهدة لوزان.. وكذلك منحتها أجزاء من مدينة الموصل العراقية.. تماما كما منحت إيران الأحواز العربية.. ومنحت إسرائيل فلسطين.. إذن بمجرد انتهاء عام 2023 سيكون من حق سوريا أن تطالب بماردين.. ومن العراق أ، تطالب بالأجزاء التي اقتطعتها بريطانيا من العراق لتركيا.. ونفس الشيء سيحدث مع دول الحدود الأخرى: إيران واليونان وقبرص وبلغاريا.. وطبعا بريطانيا وفرنسا تساهلتا في معاهدة لوزان مع تركيا لتأخذ ما شاءت من أراضي العراق وسوريا كتعويض عن تحرير سائر الدول التي كانت تابعة للدولة العثمانية.. وعلى رأسها مصر.. وأكثر من ذلك أجبرت بريطانيا العراق على منح تركيا 10% من قيمة الودائع النفطية في الموصل لمدة خمسة وعشرين عاما.
ثانيا: تركيا ستفعل ما فعلته مصر: ستبادر لحفر قناة تربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة ثم قناة أخرى تربط بحر مرمرة بالبحر الأبيض.. وهكذا يصبح لتركيا كامل السيادة على مضيق البوسفور.. كما لمصر كامل السيادة على قناة السويس.. وصحيح أن إغلاق القناة الصناعية - التي ليست من صنع الله - هو من حق الدولة ومن عناصر سيادتها على أراضيها.. ولكن هذا القرار حتما سيعرض اي دولة تتخذه لعقوبات أممية.. وقد يورطها في حرب.. فالعالم لا يسير على مزاجه.. بل ضمن نظام معين وقانون معروف: من يحاول أن يربكه أو يتجاوزه يتم تكسير رأسه كما حدث لصدام ومرسي.. باختصار: لا يسمح بتهديد مصالح الدول الكبرى..
ثالثا: بعد عام 2023 لن يمكن الأكراد أن يطالبوا بالانفصال عن تركيا.. أردوجان يشبه عفاش في هذا الموضوع: كلاهما يؤمن بنظرية (الوحدة أو الموت) وطبعا تدعم موقف تركيا الدول التي فيها أقليات كردية كإيران والعراق وسوريا.. وما زالت أوربا وأمريكا والأمم المتحدة عاجزة عن إجابة السؤال الكردي الكبير: كيف منحتم إسرائيل دولة في فلسطين واليهود كان عددهم - في العالم عام 1917 - لا يبلغ مئتي ألف.. واليوم الأكراد عددهم يقترب من الأربعين مليونا: 1- ستة عشر مليونا في تركيا 2- اثني عشر مليونا في إيران 3- ستة ملايين في العراق 4- مليونان في سوريا.. ومع ذلك فأنتم ترفضون أن يكون لهم دولة مستقلة؟! أليس الأكراد أولى بدولة مستقلة من اليهود؟ ولكن قيام دولة كردية هو - كما ذكرنا - مما تجمع على رفضه إيران والعراق وسوريا مجتمعات.. والأكراد في العراق يتمتعون بنظام فيدرالي وحكم ذاتي ولكن ضمن الدولة العراقية..
وثمة معلومة انتشرت وشاعت تقول: أن تركيا ممنوعة من التنقيب عن النفط بموجب معاهدة لوزان.. ولكن هذه المعلومة خاطئة تماما بنسبة 100% بدليل أن تركيا تنقب فعلا عن البترول منذ عام 2003.. ولكن يبدو أن الله لم يأذن للآبار التركية ولم يضع فيها البركة التي أذن بها ووضعها في الآبار السعودية والعراقية والليبية وحتى اليمنية.. فما زالت تركيا تستورد احتياجاتها من النفط من دول كالعراق وايران والسعودية وروسيا.. ولو أن تركيا كانت تنتج البترول فعلا.. لأصبحت من أغنى دول العالم.. وإذا كانت دولة (كقطر) مساحتها حوالي اثني عشر ألف كيلو فقط.. استطاعت - خلاص نصف قرن فقط - حشد احتياطي نقدي ضخم يتجاوز ترليوني دولار (ألفي مليار) فماذا بإمكان دولة - بل قارة - مساحتها حوالي مليون كيلو أن تفعله؟ إن تركيا عندئذ ستتجاوز دول الخليج والعراق وليبيا وإيران.. وتصبح عضوا في أوبك.. وستنافس السعودية وروسيا وأمريكا.. على السيطرة على أسواق النفط العالمية.. وبإنتاج يومي يقارب ما تنتجه السعودية وروسيا وأمريكا.. وبقدرة تصديرية تقارب ما تصدره السعودية وروسيا.. أما أمريكا فمعروف أنها لا تصدر النفط.. بل تستورد ثلثي احتاجاتها النفطية..
بل إن دولة كاليمن يمكنها أن تكتفي ذاتيا بإنتاجها اليومي من النفط.. ولكن تركيا لا يمكنها ذلك.. ويبدو أن الله لم يطرح البركة في الأراضي التركية كما قلنا.. وإلا لكانت تركيا دولة نفطية منذ عقود: قبل حتى دول الخليج.. ولكن الأمر كما يقول المثل اليمني: لو كانت شمس كانت أمس: تركيا لا تنتج البترول.. ولن تنتجه..
الخلاصة: تحرر تركيا من بنود معاهدة لوزان سيدخل العالم في دوامة.. ستجبر العالم - خاصة الدولتين التي فرضت المعاهدة بريطانيا وفرنسا - على أن تساوم تركيا أن تقبل مئة مليار دولار أو إسقاط جزء من الدين الخارجي.. مقابل الخضوع لمعاهدة جديدة.. تقيد الوحش التركي العثماني الهائج الطائش المتهور.. الذي كان يهدد العالم الغربي يوما ما!
تبقى نقطة أخيرة مهمة وجوهرية:
العرب - باستثناء سوريا والعراق - ليس لهم ناقة ولا جمل فيما يحدث لتركيا أو ما سيحدث لها من انتصارات أو هزائم.. وليس أحمق ولا أجهل بالدين والسياسة والتاريخ.. ممن يظن أن الدولة العثمانية التركية الأعجمية.. دولة إسلامية وأنها كانت خيرا على الأمة.. أو جرت - أو حتى ستجر - عليها نفعا وخيرا.. إنه كذاك الأحمق الذي يظن أن دولة أعجمية كإيران.. تحب الخير للعرب أو حريصة على مصلحتهم..
وإذا نشبت صراعات - أو حتى حروب - بين عمالقة العالم: الأعاجم الغربيين (أوربا وأمريكا وكندا) والأعاجم الشرقيين (تركيا وإيران وروسيا والصين والهند واليابان) فليس أحمق ممن يعتقد أن في دعم انتصار أحدهما على الآخر مصلحة للعرب.. تلك يا سادة دول وشعوب وأمم لها مشاريعها وأجنداتها ومصلحتها الخاصة.. وكيانها الخاص..ولا يعنيها ما يصيب العرب والدول العربية من قريب ولا بعيد.. ولذلك فهي اليوم قد تتظاهر بأنها عدوة لإسرائيل.. ولكن غدا يمكن أن تكون أكبر صديق وحليف لإسرائيل.. وأكبر داعم لبقاء واستمرار الاحتلال الأجنبي لأراضينا العربية: احتلال إسرائيل لفلسطين وجولان سوريا ومزارع شبعا اللبنانية.. واحتلال إيران للأحواز العربية ولجزر الإمارات الثلاث..
أخيرا نختم بالأثر الذي يروى مرفوعا ولا يصح والصواب أنه موقوف على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: اتركوا الترك ما تركوكم!