في 2011م كان هناك من خرجوا ليسقطوا نظام صالح وهناك من خرجوا ليسقطوا الشريعة .. هناك من هتفوا الشعب يريد إسقاط النظام ومن وررائهم من يخدعهم وهو يقصد النظام المجتمعي ومنظومة القيم وأحكام شريعة الإسلام .
هذا عدا عن الذين كانوا أيضا يهتفون نفس الهتاف وهم يقصدون إسقاط النظام الجمهوري ، وأعني الإماميين ..
قلت مرة حتى لو وافق علي عبدالله صالح على منظومة أهداف المشبوهين من دعاة المدنية ووافقت كل الدول والأنظمة فهذا لا يعنينا ولا كنا لنقبل ونحن نرى ثوابتنا تنقض عروة عروة ..
وكانت المشكلة دائما بيننا نحن وبين من تدفع بهم وتدفع لهم منظمات غربية مرتبطة بدوائر مخابرات في الغرب لغش الجماهير واستخدام احتقانهم ضد النظام ، لم نكن مع صالح وإن اختلفنا على توقيت الإحتجاجات ضده ـ لكننا كنا ونظل وسنبقى ضد من اتخذوا من شعار اسقاطه أجندة مشبوهة لإسقاط منظومة القوانين والقيم بما فيها منظومة التشريع في الإسلام ومنظومة المبادئ والثوابت الوطنية والجمهورية لأن كل تلك المنظومة الإسلامية والجمهورية كلها محسوبة راديكالية ودينية في معيار ما يسمى بالدولة المدنية ..
يتمترس أؤلئك الإنتهازيون وراء الشباب البريء ومسمى ثورة فبراير فإذا انتقدت تلك القلة في سلوكها أو انتهازيتها أو خدمتها لأجندات مضادة لهويتنا الوجودية أعلنوا "النكف" يا شباب فبراير هبوا إن ثورتكم في خطر فيحولون الحملة بيننا وبين شباب فبراير تارة وبيننا وبين الإصلاح تارة أخرى وبالفعل ينجحون في ذلك مع أنه لم يُستهدف قطاع من أفكار هؤلاء كما استهدف الإصلاح ، ولم يتضرر ويدفع الثمن كما دفعت الكثرة البريئة من جموع فبراير !
منذ أول يوم ونحن نقول بكل وضوح الدولة المدنية هي العلمانية أي الدولة النقيض للدولة التي تستمد قوانين التحريم والتجريم من الإسلام فلماذا اذن كذبوا عليهم وأخرجوهم باسم المدنية دون أن يخبروهم أن المدنية هي العلمانية ؟ أنا أقول لك لماذا .. لأن الطعم في أساسه كان يستدعي أن يبتلعه الإسلاميون .. ومرة أخرى لماذا ؟ لأن الإسلاميين منذ سبعين عاما وهم يتصدون لطروحة العلمانية فكانت "ضربة معلمين" بالنسبة للدوائر المعنية في الغرب أن تطرح العلمانية من خلال عدو العلمانية العريق "الإسلاميين" .. ولكنهم واجهوا إشكالا كبيرا سواء الجناح المتلبرل داخل التيار الإسلامي ( الذي يقوده الغنوشي طبعا ) أو أساتذتهم المحركون في الغرب ـ وجدوا إشكالا في مسمى العلمانية فقالوا كيف نُسَوِّقُ للجماهير وجماهيرنا وقواعدنا بالذات مدلول ومسمى العلمانية وقد ظللنا لأكثر من نصف قرن نجلد هذا المصطلح ، بل وندين الأنظمة والتيارات من خلاله ! فكان الجواب جاهزا أن سوف يتم نزع قشرة الإسم "العلمانية" وكتابة "الدولة المدنية" على نفس المُنتَج !
لقد ذكرتنا هذه اللقطة الإحترافية بعلي البيض حينما قالوا له أن إسم الإنفصال أصبح مُداناً في وعي الجماهير فقد اشتغل عليه إعلام السلطة حتى شيطنه فجاءت الفكرة نفس المطلب والمنزع الإنفصال ولكن لنسمهِ "فك الإرتباط" ! هكذا يتم التخلص من العناوين الملفوظة شعبيّاً واستبدالها بأسماء وعناوين جديدة ولطيفة مع الإحتفاظ بالمضمون ، والجماهير دائما تحب الأسماء الجديدة والرنانة وتريد أن تجرب كل جديد !
كان هذا بالنسبة لعموم الساحة العربية فيما يتعلق بمصطلح الدولة المدنية وأما بخصوص اليمن بالذات فقد كان من الصعب على كل من يعتمد على جمهور الشعب أن يرفع راية العلمانية لذلك جرى استقدام التعديل "الدولة المدنية" وتم تركه عائما فالقرويون الذين دخلوا الساحات يتخيلون أن المدنية معناها أضوا المدينة وخدماتها وأبناء المناطق الوسطى فهموها أنه التخلص من الحكم القبلي ، وأكثر الجمهور اجتهد وفسرها على أنها نقيض الحكم العكسري وهكذا ظلت مفتوحة للإجتهادات وكلٌّ يغنيها على ليلاه .
من بين مئات الآلاف الذين خرجوا إلى ساحات 2011م لا يوجد عدد يذكر يشعر أنه جرح في كرامته لكونه استغفل وتركوه يهتف حولين كاملين باسم الدولة المدنية دون أن يخبروه أن الدولة المدنية هي نقض ونقيض دولة شريعة الإسلام وغير الإسلام مما يسمونها الدولة الدينية ! بعد ثمان حجج مثقلة بالمآسي والجرائم والحروب والأوبئة قالوا لهم لقد كنتم تهتفون للعلمانية .. يا للخيبة !!
لا تتسع هذه المقدمة لسرد شيء مما نريد عرضه حول هذه الفاقرة ولكنني أريد أن أؤكد للأبرياء ممن يصدقون كل ناعق باسم الثقافة والتقدم والعقلانية والتنوير .. إن النظام العلماني الغربي يعتمد في الشرق الأوسط على فرض سياسة حماية الأقليات بل وتسييدها على الأغلبية تحت مسمى الديمقراطية التوافقية حينا وتحت حجة ضمانة الأقليات وحمايتها حينا آخر ، ولذلك فالدوائر الغربية المرتبطة بكواليس القرار الغربي التي تلقن غلمانها في بلادنا برامج التغيير باتجاه تغريب الفكر والنظم الإجتماعية والقانونية هذه الدوائر هي نفسها من توظف وتوجه جماعات الضغط لحماية وإنقاذ الحوثي ، وهو نفسه الغرب الليبرالي الإمبريالي الذي قاتل إلى جانب الإمامة في الستينات ممثلا في أمريكا وبريطانيا ..
لذلك على الشباب الذين يظنون أن موضوعة العلمانية هي سلاح ضد الإمامة يؤسفني أن أقول لهم أن من يدعم العلمانية من الغرب هو نفسه من يدعم الحوثيين ويضغط لصعودهم وانتشارهم ولم يكن بن عمر إلا أحد رسل تلك الدوائر المرتبطة التي منحت الإسلاميين السنة في اليمن جائزة ومنحت الحوثي وطناً مقابلها .. أليس ذلك غاية الإنصاف العلماني !
الدولة المدنية باختصار ليست ضد الدين فقط بل هي ضد كل الثوابت الصلبة ابتداء من ثابت العقيدة ثم ثابت الوطنية وثابت الجمهورية وثابت سبتمبر لذلك كان علينا أن نسأل : لماذا دولة مدنية ؟ لماذا ليست الدولة الوطنية مثلا .. لأن دولة الوطن قد أفلت في زعمهم ويجري تفكيكها ، وأصبحنا أمام مواطن العالم .. مواطن لا وطن له لينتمي إليه ولأن الدولة الوطنية سياج مانع في وجه تدخلات سياسة العولمة الثقافية والإقتصادية وهي ما يسمونه "بالكسموبولتية" التي أساسها وجوهرها هو فك جميع الروابط بين الفرد وأمته واستبداله برابط وحيد يصل بينه وبين العالم ، والعالم هنا هو أميركا ، والعولمة في الواقع هي أمركة الثقافة العالمية أو عولمة القيم الأمريكية المبنية أصلا على المصالح الأمريكية بمعنى عولمة الفتن والأطماع والحروب والسادية الحضارية التى تجلت أمريكيّاً في أبي غريب وفيتنام وأفغانستان والعراق ولماذا نذهب بعيداً لماذا لا نقول في محو شعب بأكمله هم السكان الأصليون للقارة التي سميت لاحقاً أمريكا !
ومثلا لماذا ليست الدولة الجمهورية ؟ لأن مدلول الجمهورية في اليمن بالذات يضع عوائق أمام أقلية العنصريين الذين جاء بن عمر يؤدي رسالة الغرب العلماني لتمكين الحوثيين من دماج إلى تعز !
من المهم أن نتذكر أن الغرب علمانيٌّ في بلاده وصليبيٌّ في بلادنا ، وهو ليس كذلك في شأنه فحسب بل في سياسته وكل أدواته في الشرق الإسلامي والعربي منه بالذات ، وأكبر أدواته هي الأقليات والأقلية في المنطقة العربية هم الشيعة . لذلك تجد الغرب يسمح للشيعة بالتعبئة الراديكالية في حين يدعم الجماعات الرخوة المحسوبة على جماهير السنة .
المسألة واضحة التغيير قادم ولكن أي تغيير ؟ تغيير سيادي وأمني وتم تسليم ملفه للشيعة ، وتغييرٌ قِيَمي واخلاقي وتم تسليم ملفه لليبراليي الخليج والجناح المتلبرل من تيار الإخوان ويتزعمه الغنوشي .والتنافس المحموم هو على من ترسو عليه مناقصة الدعم الغربي في ملف التغيير القيمي أعلى ليبراليي الخليج أم على ليبراليي الغنوشي ! أما ملف التغيير السيادي والأمني فهو بيد الإيرانيين وتشكيلاتهم الميليشاوية ، ولذلك فلسفته عند الأمريكان : "أننا بحاجة إلى تصليب الأقلية من خلال تركها تدشن خطابها التعبوي الطائفي العسكري أي أننا بحاجة إلى عسكرة التشيع ، وبالمقابل تمييع الأغلبية السنيّة وتفكيك العسكرية السنية عسكرياً باسم تمدينها ومن خلال دعم الطلائع الرخوة وتسليم ماكينة الإعلام لجناح نواعم في الخليج وتشغيل الجناح المعني داخل التيار الإسلامي لإحداث صدمات داخل التيار تهيئ للمراحل التالية" .. وهي كلها مراحل تمييع كتلة الأغلبية السنية أي كتلة الأمة .
أليس من العار أن تقبل نخبة الأغلبية السنية على جناحيها الخليجي والتنظيمي الإسلامي أن يسند إليهم ملف التغيير الأخلاقي في حين يسند إلى الشيعة ملف التغيير السيادي والأمني والعسكري ؟!! ذلك على أساس أن التغيير مسلَّمةٌ حتمية في جدلية الثابت والمتحول أو التطور والثبات ، وقد طرحت مقولة التغيير المباشر هذه في نهاية التسعينات ويومها سمعنا صدام حسين يزمجر في أحد اجتماعاته بأركان نظامه قائلاً : "العراق ثابت .. العراق ثابت وعلى الآخرين أن يتغيروا" .
ومن البديه أن ندرك بعد كل هذا أن الخلاف اليوم في بلادنا ليس على العلمانية من عدمها حيث يتصور الإنتهازيون ويصورون لمن هم جاهزون للإستغفال أن العلمانية خلطة سحرية إذا قدمت للحوثي فإنه سرعان ما سيثوب إلى رشده ويعتذر ويخرج من صنعاء !!
هؤلاء ليس لهم عقول لنخاطبها ، فاليمن يعاني من حالة اللادولة وهؤلاء جاءوا يلقون حصاة نعرف أنها للإستهلاك أمام الممولين للحصول على حزم عملات جديدة ولإضافة بعض الشهادات والجوائز إلى جدار الناشطات ، فالكلام من قبلهم هو للإستهلاك وإثارة الجدل والتقرب للممولين مرة بخلع حجاب القريبات ومرة بمثل هذه الترهات التي يدرك الجميع أنها عدمية لا قيمة لها ، وخصوصاً في مثل هذه المحنة التي يعيشها شعبنا الجريح حيث تبدو مثل هذه النعقات أشبه بمن يُحدِث في مسجد أثناء الصلاة على ميتٍ عزيز .