توفيق السامعي
ولاية علي بن أبي طالب بين تزوير الإمامة والحقيقة التاريخية (الحلقة الخامسة)
السبت 23 يوليو 2022 الساعة 18:46

  

الولاية بين علي ومعاوية..جذور الفتنة والصراع 

 لم تكن الفتنة وجذورها لتقتصر فقط على خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -والتي أدت إلى استشهاده لتمتد إلى عهد علي ومعاوية فقط، وانتهاؤها باستتباب أمر الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، بل إننا نعيش تداعياتها إلى اليوم وربما تمتد إلى قيام الساعة؛ كون الأمة انقسمت إلى فريقين متصارعين؛ لكل فريق فكره ونهجه، يتربص بالآخر.

لذلك نجد هذه الصراعات والفتن وسيول الدماء تتجدد بين فترة وأخرى، وكلما قلنا انقضت تمادت وماجت كموج البحر، خاصة من قبل الشيعة المتشيعة لعلي، والتي ترى أنها أحق بالحكم دون بقية المسلمين، وتسوق لذلك نصوصاً مفتعلة، وآياتٍ مؤولة، وأحاديث مزورة، وأحداثاً وتاريخاً ملفقة لإثبات الولاية فيهم وفي علي، وتستخدم لذلك كل إرهاب وتنكيل بحق الطوائف الأخرى، حتى أن إرهابها ليشمل الشجر والحجر والحيوان والبيئة، وتمتد أياديهم الغادرة حتى لذوي القربى منهم من طائفتهم أثناء المنازعة على الحكم والإمامة والسلطان، أو الذين يناصحونهم ويخالفون ولو نزراً يسيراً من عقيدتهم في الولاية، كما فعل عبدالله بن حمزة مع المطرفية، أو كما فعل المطهر بن شرف الدين مع أشراف صعدة من الحمزات. 

ما يجري في اليمن من انقلاب حوثي، وسفكها كل هذه الدماء إنما تعتمد في فكرها على تلك الجذور التي تتأولها وتكررها الإمامة عندنا في اليمن في كل قرن حتى أهلكت الحرث والنسل، وجعلت اليمن في تخلف دائم وغير مستقر، وحروب وصراعات لا تنقطع.

ولذلك كان لزاماً علينا أن نعمل وقفات مع جذور هذا الصراع، وتتبعه حلقة حلقة من جذورها، وفكفكتها عروة عروة، واستنطاق كنهه وتتبعه من تلك الأسس التي تسوقها الإمامة عبر التاريخ ومنها الحوثية اليوم وترتكز عليها في فكرها في كل قرن، وعلى رأسها، وفي مقدمتها، موضوع الولاية التي تكفر بها الأمة واليمنيين، وتطعن في الشيوخ وزراء رسول الله أبي بكر وعمر وعثمان وفي عدالتهم، لتؤله علياً وبنيه، وتعطيهم من الأقوال وتسند إليهم من الأفعال ما لم يقوموا هم بها في الصدر الأول للإسلام، ولم يحتجوا بها، ولم ينافسوا فيها الشيوخ الأولين أبا بكر وعمر وعثمان في شيء، وكل ما صدر من نصوص شيعية واستدلالات تاريخية إنما هي محض تزوير وتلفيق، كما سنبين من خلال هذا البحث القصير. 

كل هذا ليعرف غير العارف بهم، ويستوضح الحق الجاهل بهم والمغرر بهم، حتى لا تجد الإمامة ولا الحوثية شعباً جاهلاً تمتطيه، أو أغراراً تجندهم.. بعد تولي علي الخلافة كانت خلافته مضطربة منذ اللحظة الأولى لتوليه، فمن خلال مراجعة الأحداث والسير والتاريخ نستنتج منها أنه كان له خلافة اسمية دون سلطة حقيقية على الأرض بسبب عدم وجود جيش الإسلام الذي كان في الثغور، وكان الثوار على عثمان هم من يسيطر على زمام أمور المدينة والخلافة وهو كان يحاول التخلص من هذا الوضع منذ أول وهلة له في الحكم، لذلك كانت خلافته مضطربة، وذلك لأسباب شتى، منها:

1- فتنة مقتل عثمان وخروج الأمر عن السيطرة، والتي تمادت حتى انعكست على عهد علي، ولم يقتصر الأمر بمقتل عثمان - رضي الله عنه.

2- مبايعة علي من قبل قتلة عثمان الثوار الخوارج، وقد كان لهم بعض قيادة دفة علي حتى أوردته المصاعب والمصائب والمهلكات قبل أن يستفيق منهم، كحادثة التحكيم التي كانوا محرضين لها أولاً ثم بعد ذلك أخذوها مأخذاً على علي وطالبوه بالتوبة منها وكفروه بسببها، وقد دار حديث طويل بينه وبينهم على هذه القصة أختصرها في جملة قالها هو: أتدفعوني إليها ثم بعدها تكفروني بها؟! صحيح أن نقمة الخوارج على علي ومعاوية معاً بسبب التحكيم، إلا أن الخوارج قاتلوا علياً وحده ولم يقاتلوا معاوية، مع أنهم حاولوا فقط اغتيال معاوية بالتزامن مع اغتيال علي - رضي الله عنهما-، فنجحوا في اغتيال علي وأخفقوا في اغتيال معاوية.

هؤلاء الخوارج لم يقدروا المسألة حق قدرها، مع أن الرسول  صلى الله عليه وسلم  حذر منهم ومن فتنتهم وظهورهم من خلال بعض العلامات التي وصفهم فيها وصفاً دقيقاً.  ففي الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري قَالَ أبو سعيد: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ فَقَالَ: ‏"‏وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟!"‏‏.‏ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ‏.‏ قَالَ: ‏"‏دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِم، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِم، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ، يُنْظَرُ فِي نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي رِصَافِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي نَضِيِّهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَىْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ ـ أَوْ قَالَ ثَدْيَيْهِ ـ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ ـ أَوْ قَالَ مِثْلُ الْبَضْعَةِ  تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ‏"‏‏.‏  قَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَشْهَدُ سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، جِيءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ قَالَ فَنَزَلَتْ فِيهِ:{ومنهم من يلمزك في الصدقات}( ).  قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رضى الله عنه - قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَ"( ).

وقد جاء علي وأصحابه يتفقدون القتلى يوم النهروان فكان هذا الرجل موجوداً بينهم، وذكر المؤرخون أن اسمه حرقوص بن زهير الكعبي من سعد تميم من العراق، وكان من ضمن الخارجين الثوار على عثمان، واحتمى من علي بستة آلاف مقاتل، كما أخبر بذلك القعقاع بن عمرو عائشة والزبير وطلحة، وأقنعهم بالصلح قبل نشوب الفتنة، وضرب به المثل أنه من أحد قتلة عثمان وهو رجل واحد من ضمن ستمائة قاتل، لكنه وحده امتنع بستة آلاف مقاتل فكيف بالآخرين؟!، وقد كان رأي القعقاع سديداً في هذا؛ إقامة الدولة واستقرار الحكم أولاً ثم التفرغ لقتلة عثمان وهم بالآلاف؛ لأن أمر النظر فيهم يحتاج إلى قضاء، ويحتاج إلى جيش، ويحتاج إلى ولي أمر.

بعد قرن من الزمن سنجد أن هناك فرقة من فرق المعتزلة حكمت على علي بالخطأ في الموقف، وذهبت مذهب الخوارج، ويبدو أنها ثمرة من بذرات الخوارج، وهي فرقة "الواصلية" نسبة إلى واصل بن عطاء الغزال، والذي ينسب إليه تأسيس المعتزلة بشكل عام رغم أنها ثلاث  عشرة فرقة. "اختصت هذه الفرقة بالتوقف عند المخطئ من الفريقين يوم الجمل وصفين، وجوزوا كون الخطأ من جانب علي، وكذلك قالوا في عثمان وقاتليه: يجوز أن يكون مخطئاً وذلك يحتمل الفسق. وزاد عليهم عمروا بن عبيد المعتزلي بأن قطع بتفسيق الفريقين وقال: لو شهد علي ورجل من عسكره وطلحة والزبير لم تقبل شهادتهم"( ).

بالنظر إلى فعلة الخوارج تلك، وموقفهم ذاك، نجد خوارج العصر اليوم (القاعدة وداعش) ينتهجون نفس النهج، وخاصة في اليمن؛ يكفرون الحوثيين والشيعة عموماً وينقمون عليهم، لكنهم يقاتلون الشرعية، ويخلخلون صفوف الشرعية، وينفذون أعمالهم الإجرامية في مواطن الشرعية لا في مواطن الحوثية، بل إنهم مع الحوثيين في وفاق تام في الصومعة بالبيضاء ورداع وغيرها، ويجندون لهم المقاتلين من صفوفهم في صنعاء ومناطقهم، وقد أسر الجيش الوطني عناصر من تنظيم القاعدة تقاتل في مارب مع الحوثيين، واعترفت بعض عناصرهم بتحالف بينهم! كما نجد أن من أقرباء علي قاتلوه، أو عارضوه ولم يكونوا في صفه.

فعلى الرغم من أن علياً كان ابن خال عبدالله بن الزبير من عمته صفية، والزبير زوج عمته صفية (أي عمه)، وابن خاله أيضاً، وأنه تنازل له للخلافة دون عثمان في حديث الهيئة الاستشارية العمرية، مقابل تنازل طلحة لعثمان، إلا أنهما (الزبير وابنه عبدالله) قاتلا علياً أيضاً قبل أن يقنع علي الزبير في الوقت الضائع بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "لتقاتلنه يومئذ وأنت له ظالم"، والحديث ضعفه كثير من رجال الحديث، وكذلك لما رأى عمار بن ياسر في صف علي فتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية"، وهذه النقطة حساسة جداً؛ إذ يأخذ الكثير من العامة أنه إذا كان بعض أهله وأقرب المقربين إليه قاتلوه وخذلوه فكيف بغيرهم؟! لذلك نجد أنه عندما عدل الزبير بعد هذه الحجة عن مقاتلة علي عنفه ولده عبدالله وعيره أن انسحابه من القتال إنما عن جبن لأنه رأى أصحاب علي وحملة راياته كانوا شباباً فتية أنجاد وأن دونها الموت الأحمر، ولم يعدل عبدالله بن الزبير عن قتال علي، لكن هذه الرواية ضعيفة أيضاً، وقد ضعفها رجال الحديث، كما ضعفوا حديث "لتقاتلنه وأنت له ظالم"، فقيل فيه حديث مرسل، وقيل غريب، وقيل ضعيف!! فحين أمر علي عبدالله بن عباس أن يذهب إليه ليحاوره قال له: قل للزبير: "يقول لك ابن خالك [يعني علي]: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا"( ). مع أن المؤرخين يذكرون أن علياً قابل الزبير بنفسه وأقنعه بالعدول عن حربه يوم الجمل حينما كان مع عائشة وطلحة في أرض المعركة.

وبعد عدول الزبير عن مقاتلة علي "قال مروان بن الحكم: رجع الزبير ويرجع طلحة في هذه الموقعة، ما أبالي رميت سهمي هاهنا أم هاهنا، فرماه في أكحله فقتله (طلحة)"( )، وكان الزبير قد قتله عمرو بن جرموز التميمي أحد الثائرين على عثمان، من قتلة عثمان، فلما جاء علياً بسيف الزبير وخاتمه قال علي: "سيف لطالما جلا الكرب عن وجه رسول الله، لكنه الحين ومصرع السوء، وقاتل بن صفية في النار"( )، وفي رواية أخرى قال للحارس على خيمته: "إئذن له وبشره بالنار"( ). 

ولو كان لعلي يد أو تواطؤ في قتل عثمان ما خرج معه مروان بن الحكم ابن عم عثمان يقاتل مع علي، وفي بعض الروايات أن مروان لم يخرج للقتال مع علي بل التحق بمعاوية بالشام، وبعضها تقول إن التحاقه بمعاوية بعد موقعة الجمل حين بلغه أن معاوية يطلب الثأر لعثمان.

3- إلتحاق عائشة - رضي الله عنها- بالمطالبين بدم عثمان، وبالتحاقها ذاك فوتت على علي فرصة كبيرة من الحاضنة الشعبية، أو سلخت جزءاً كبيراً ممن يفترض أن يكون ضمن مجاله الحيوي في العراق والحجاز (مكة والمدينة)، مما زاد في تلبس الأمر على عامة المسلمين، وذهب بعضهم لتفضيل الانعزال السياسي عن الجميع، فقد كان هذا الانعزال ضعفاً لعلي قوة لمعاوية.   

 4- توليته بعض الولايات قتلة عثمان كالأشتر النخعي وكنانة بن بشر التجيبي.

5- القصور السياسي والإداري وعدم تألف القلوب بالحكمة والدهاء، كما فعل معاوية، وأخذ الناس رغبة ورهبة.

هذا القصور ظهر من خلال كثير من الأشياء، وحتى إن كان يعدل عنها بعض الشيء إذا أدركها يكون إدراكه متأخراً بعد فوات الأوان، مثلاً كعزله قيس بن سعد بن عبادة داهية العرب الثالث، الذي ساس مصر لعلي فخدع معاوية وعمرو بن العاص علياً برسالة مزيفة لعزل قيس عن ولاية مصر، وتولية محمد بن أبي بكر، وهو شاب حديث السن لما تعركه الأحداث والتجارب بعد، وهي مصر أكبر من الأمراء وأوسع الأقاليم، وغيرها من التجارب التي عدل عنها بعد فوات الأوان.

من يراجع الأحداث التاريخية والسياسية لذلك الصراع يدرك هذه الأمور، وأنها كانت من أهم أسباب عدم استتباب أمر خلافة علي ونهايتها، كما كانت نهايته.

كان كثير من المسلمين والناس حينها يميلون إلى معاوية للأسباب السالفة، وخاصة في النصف الثاني من ولايته، وطبيعة الناس تميل إلى القوة والغلبة والمال والدهاء، وهي الأسباب التي لم يوفرها علي لهم، فقد كان علي يصارع بالمبادئ التي تربى عليها إسلامياً ولم يستخدم المكر والخديعة كما فعل معاوية، فأراد أن يسوس الناس بمنهج أبي بكر وعمر لأناس تربوا على يد الرسول، كما ساسهم من قبله أبو بكر وعمر وعثمان، ولم يدرك المتغير الجديد في تغير طباع الناس، وهو أن رقعة الإسلام توسعت بفتح الأمصار، وأن الناس لم يتربوا على ما تربى عليه جيل الصحابة - رضوان الله عليهم- وأهل المدينة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الفتوحات أغرت صدور المؤلفة قلوبهم وحديثي الإسلام، وكان حديثو الإسلام هم أكثر الناس غوغائية الذين ثاروا على عثمان، ومنهم من الموالي، بل إن ذلك التغير حصل حتى من بعض كبار الصحابة، وقد استغرب علي نفسه هذا الأمر، فكيف أنهم انقادوا طائعين لأبي بكر وعمر وعثمان ولم ينقادوا له، وخاصة الزبير وطلحة، رغم أنهما بايعاه، فقال: "ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما عليّ، والله إنهما يعلمان أني لست دونهم، ثم أخذ في الدعاء عليهما"( ).

ومن هذا الباب قال أحدهم، وهو عبيدة السلماني، (قيل هو صحابي)، قال لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين: ما بال أبي بكر وعمر انطاع الناس لهما، والدنيا عليهما أضيق من شبر فاتسعت عليهما، ووليت أنت وعثمان الخلافة ولم ينطاعوا لكما، وقد اتسعت فصارت عليكما أضيق من شبر؟ فقال: لأن رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان، ورعيتي أنا اليوم مثلك وشبهك! لذلك كان التعامل المرن والدهاء والمكر مطلوب في هذه المواطن، وقد كان ابن عباس نصح علياً أن يستخدم المكر والخديعة في هذا الصراع كما يستخدمه معاوية وعمرو فأبى علي. وقال قيس بن سعد بن عبادة، وهو من دواهي العرب، ثالث دواهي العرب بعد معاوية وعمرو بن العاص، صاحب الوسم والمقولة المشهورة "لولا الإسلام لمكرت مكراً لا تطيقه العرب"، وكان والي علي بن أبي طالب على مصر: "والله لئن قُدِّر لمعاوية أن يغلبنا، فلن يغلبنا بذكائه، بل بورعنا وتقوانا"! وقد كان يوم صفين مع علي بن أبي طالب، وكان يخطط بدهائه لهزيمة معاوية بالمكر والخديعة، فكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يُمكن أن يودي بمعاوية وبمن معه في يومٍ أو بعض يوم، بَيْدَ أنَّه يتفحَّص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السيِّئ الخطر، ثم يذكر قول الله - سبحانه: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه}( )، ومن هنا قال مقولته: "والله لئن قُدِّر لمعاوية أن يغلبنا، فلن يغلبنا بذكائه، بل بورعنا وتقوانا"، وفعلاً هذا ما كان فقد هزمهم معاوية بالمكر والخديعة ولأنهم لم يستخدموا معه هذا المكر والخديعة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في إحدى معاركه: "الحرب خدعة"! كانت الشام مع معاوية عبارة عن دولة مصغرة لم تسقط فيها مؤسسات الدولة، وكانت نواة صلبة تقف على أرضية صلبة بعكس وضع علي، لذلك ظل أهلها مترابطين غير مفككين، فقد كان الانقلابيون قد أسقطوا مؤسسات الدولة، أو كانت تلك المؤسسات في الأطراف في الثغور، وخاصة مؤسسة الجيش - القوة الضاربة- ولم يبق في المدينة الا العامة وأهل الحل والعقد الذين انقسموا الى ثلاث فرق؛ فرقة محايدة معتزلة ويمثلهم سعد بن ابي وقاص وعبدالله بن عمر وعبدالله بن سلام وآخرون، وفرقة تطالب بدم عثمان وتمثلهم عائشة وطلحة والزبير، وهؤلاء كانوا في وضع مرتبك من الأساس فقد بايعوا علياً ثم انقلبوا عليه، وفرقة علي التي كانت هشة؛ جزء منها يكونه الانقلابيون المتحكمون بزمام الأمور، وجزء موالٍ لعلي ينقادون في كثير من أمورهم للانقلابيين. 

إذاً هنا تكون الأوضاع مضطربة على علي منذ اللحظة الأولى، لم يجد فرصة للاستقرار والنهوض، فتراكمت عليه المشاكل وازدحمت عليه القضايا ليتسع الخرق على الراقع وصولاً إلى النهاية المأساوية له ولكثير من المسلمين. 

لو كان معاوية أو غيره في وضع علي لما اختلف الأمر معه من ذلك الاضطراب، غير أن الأقدار كانت في صف معاوية على الدوام، وربما هي النصفة لعثمان {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ( ). 

غالت الشيعة كثيراً في علي وبنيه وصولاً إلى درجة التأليه، ولم يعظموا الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمهم لعلي وبنيه، حتى إنهم نسبوا إليهم خوارق العادات والمعجزات، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطروه كما أطرت بنو إسرائيل المسيح ابن مريم، ففي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"، وقد قال الله قبل ذلك: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً}( )، فإذا كان النهي عن الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم فما بالكم بعلي وبنيه! أخذ الشيعة عن بني إسرائيل كثيراً من هذه الثقافات كالغلو والتقديس والتأليه، حتى إن الاثني عشرية تؤمن وتعتقد بعودة إمامهم العسكري الغائب في السرداب منذ أكثر من ألف سنة، ولم تصدق موته! ويقولون بخلق علي والحسين قبل السموات والأرض، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!