في الرياض ثمة شيء ساحر، يجذبني إليها كلما فارقتها ولو لأيام. طيبة ناسها وأخلاقهم الرفيعة. يحتفون بك ويرحبون بضيوفهم وجيرانهم وحتى بينهم ترحيبًا لن تجده لو درجت الأرض وشعوبها إلا في السعودية. صدقًا لا أدري ما الذي يأسرني بهذه المدينة الشاهقة بسمو مؤسسيها، لعله تطورها الذي لا يتوقف، وقد تكون جودة الحياة فيها، أو أمنها الذي لا خوف بعده، وربما قد يكون طقسها الثابت بلا انعطافة حادة قد تقودك إلى فراش المرض. صراحة لا أدري ما الذي يحببني في هذه الأرض الطيبة، وفي هذا الشعب الكريم، فجميلها وجمائل أهلها أكثر من أن تعد، ولا حاجز يمنعني عن الهيام بها أرضًا وإنسانًا.
قصص كثيرة عشتها، وعايشتها، لعقد من الزمن بين جنبات هذه الرياض، والمملكة بشكل عام، دونت بعضها وأحفظ منها الكثير في أعماقي حتى أجد الوقت المناسب لكي أنثر ما بصدري على صدر البياض. أما هذه المقدمة فما كنت لأكتبها لولا أنني عايشت اليوم، حدثًا ليس بغريب على مثلي شهادته، لكن المشاعر التي لمستها فيمن التقيتهم أو البهجة التي رأيتها على محياهم قادتني لهذه السطور.
في وسط الرياض كان آلاف اليمنيون يتجمعون منذ العصر، لحضور لياليهم الثقافية. عائلة عشرية بأفرادها تتلوها أخرى. كان المشهد مهيبًا، أب وزوجته وأطفاله وجديهما يسيرون والبهجة تسبقهم على جنبات الشارع المزدحم بسيارات يفوح منها البخور العدني والمشقر الصنعاني وأغاني علي عبدالله السمة والآنسي والقمندان.
ركنت سيارتي في أحد الشوارع الخلفية مثل المئات، واتجهت مع فوج يسبقه فوج، وتتبعه أفواج. كانت البهجة تسابق الجميع إلى حديقة السويدي بالعاصمة الرياض. لا خوف يقيدهم من مليشيا قد توقفهم في نقطة تفتيش، ولا حارس أمن قد يضع العراقيل ليحصل على رشوة مقابل دخولهم، ولا رسوم مالية مقابل المتعة التي كانت تنتظرهم، حيث أعدت لهم الحكومة السعودية ممثلة بوزارة الإعلام وهيئة الترفيه جرعة ساحرة من شيءٍ يسكنهم حيث يسكنون.
تحلق الآلاف حول منصة تربعها الفنان حسين محب. صوته العذب مع دندنة العود الصنعاني أشعلت حماس الحضور فتصافقت أكفهم وارتفعت هواتفهم لتوثق اللحظة التي افتقدوها لسنين. كانت الأعداد كبيرة جدًا، ولكم أن تتخيلوا منظر الهواتف وهي تشتعل في أكف آلاف من الحشود المتراصة أمام منصة الشجن. لم يكن حسين محب وحده من ارتقى تلك المنصة فقد سبقه إليها فنانون آخرون بألوان غنائية جسدت الثراء الفني والثقافي اليمني، وكان لهم نصيب يضاهي حسين إعجابًا وحبًا وتفاعلا.
غير بعيد عن المنصة نصبت كثير من الخيام والصوالين الثقافية. بعضها حوى لوحات من الفن التشكيلي اليمني العابر للحدود، وبعضها مضمخ بالتراث اليمني الأصيل، والبعض الآخر كان يحوي كلما طاب ولذ من آكلات المطبخ اليمني الشهي.
في قلب الرياض وجدتني فجأة في اليمن. عذوبة اللهجة الصنعانية تجد مسراها إلى مسمعي، والقاف الحضرمية تطربني، والجيم التعزية تعود بي إلى أيام شغف عشتها في جبال صبر الشامخة.
كل اليمن كانت حاضرة في قلب الرياض، البرعة، وبالة خبان، ودان حضرموت. ضاربو الطبل أشعلوا حماس الجميع وكدت أفقد وقاري لأشارك الفرقة الشعبية المخصرة بالجنابي رقصاتهم المجنونة. إنه السحر على شكل احتفالية، ويا لها من احتفالية.
هل أطلت عليكم، أعتذر إن كنت قد فعلت، لكني والله مأخوذ بهذا الجمال الذي تغلف بالليالي الثقافية اليمنية غير البعيدة إطلاقا عن شقيقتها السعودية. مأخوذ بذلك السحر الذي صممته عقول ماهرة، في وزارة الإعلام السعودية وقدمته على هيئة مبادرة عظيمة عنوانها "انسجام عالمي" بشراكة فعالة مع موسم الرياض. هذه المبادرة، لا تؤكد ريادة المملكة فقط، فقد جسدت أسمى معاني الإنسانية، وعززت روابط الشعوب المختلفة في هوياتها وثقافاتها، ثم صهرتها في بوتقة واحدة عنوانها التعايش بمحبة وسلام. لقد تجاوزت الفعالية أحلامي وجعلتني أعيش الواقع. أنا في اليمن أم في السعودية؟ سألت نفسي. وكانت الإجابة أنت في وطنك.